9 يونيو… ودروس التجربة الثورية

حجم الخط
0

تحل علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة والخمسون لثورة التاسع من يونيو/ حزيران المجيدة، التي انطلقت في مثل هذا اليوم من جبال ظفار سنة 1965. وتطورت في مجرى النضال تحت راية برنامج استراتيجي طموح، إلى ثورة وطنية جذرية شاملة.. جرت مياه كثيرة في نهر العملية الثورية وتقاطعت المسارات واختلطت المذاقات، ويبقى للمناسبة العظيمة معنى خاص يُحتفى ويُحتفل به. ويمثل هذا اليوم عنوانا بارزا للنهوض الشعبي العارم، وتعبيرا مكثفا عن حالة الرفض والثورة على الحكم الاستبدادي العنصري، في محطة مفصلية هي الأكثر ظلمه وحلكة وسوادا، وتكمن عظمتها في إيمان مناضليها بحتمية النصر كأيمانهم بحتمية الموت، وفي فكرتها الشمولية ورومانسيتها الثورية التي تخطت الأسوار الشائكة الحقيقية منها والوهمية، فكرا وممارسة، لتشمل معظم ساحات الخليج العربي ووحدة ترابه وترابط أهدافه الوطنية.
ولا يزال البعد الوحدوي في العمل الوطني خيارا استراتيجيا يحظى بغطاء جماهيري واسع، أخذت بعض نزعاتها الرومنطيقية المشروعة، التي تدفقت كطوفان جارف من جراء العزلة والغضب والمعاناة المتراكمة عقودا طويلة برهانا للنكوص عن الموجبات الوطنية. أفرزت التجربة الثورية الكثير من الدروس التي تستحق التوقف أمامها، وتأمل معانيها والتمعن في أبعادها ومدلولاتها التاريخية، وإنصافها كظاهرة فريدة هي الأكثر إشراقا وروعة في التاريخ الوطني المعاصر، حين دفعت بالعنف الثوري المنظم الأغلال، وأشهرت الواقع المأزوم، وأثارت جدلية الجوع والطغيان، كنقيض للسلم والاستقرار وعدم تعايشهما.

كل عمل وطني ديمقراطي يكون أكثر نضجا عندما يتكئ على دروس الماضي، وما أفرزه من حقائق

الكثير من الأطراف تسعى للانتقاص من قيمتها والتقليل من أهميتها وتضحياتها، وهو بحق مؤسف ومحزن، الأمر الذي يستدعي دراسة رسالتها بموضوعية، بعيدا عن الأحقاد، وردات الفعل، والدوافع الانتهازية والوصولية، والتقييمات الأحادية؛ بحيث تفهم كما هي، في زمانها ومكانها، ووفق ظروفها ومعطياتها، حركة وطنية صنعها الشعب لخدمة الشعب؛ وكل عمل مهما كان عظيما ونبيلا ومخلصا لا يخلو بالضرورة من النواقص والثغرات، ويؤخذ ككل مشروع تحرر وطني بأحلام وإنجازات وأخطاء وهفوات، مقابل المشروع القائم آنذاك ولا حاجه لتعداد مثالبه.. ولا يخالجني أدنى شك في ضرورة وأهمية المشروع الوطني التقدمي وآفاقه العريضة، الذي فتح الطريق لتحولات كبرى في الواقع الاجتماعي.. إن سيرة الأبطال تفوق الخيال، وهي أشبه بسيرة الأولياء، سعود المرزوقي أحد أبرز قادة الحركة الوطنية وأحد شهدائها العظام عندما وجه إليه المحقق البريطاني تهمة خيانة الوطن أجاب: «إن كان حبي لعمان جريمة فليشهد التاريخ على أني مجرم». لماذا لا يدرج هذا النص الرائع ضمن مناهج التربية الوطنية؟ السلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا؛ وسلاما على أرواح الشهيدات والشهداء الساكنة في كبد الشمس وقلب الشعب والوطن. إن الذين يجرؤون على إدانة حركة شعب مضطهد ومحروم من أبسط الحقوق الإنسانية، ويقدم حوالي 30 شهيدة، حيث افتتحت اتسلوم سالم محاد المعشني سجل الخالدات في 10/9/1968 على مذبح الخلاص من الظلم.. وتقف طليعته أمام مقاصل الإعدام بهذا العنفوان الثوري والصفاء الذهني والانتماء الوطني. وستبقى التجربة الثورية مصدر إلهام. إن الإحاطة بدروسها الثمينة من كل الجوانب وصيانة الذاكرة التاريخية من التشوية، مهمة وطنية مقدسة تستحق المجازفة، ولا شك في أن كل عمل وطني ديمقراطي يكون أكثر نضجا عندما يتكئ على دروس الماضي، وما أفرزه من حقائق. وحيث التاريخ لا يعرف الفراغ فإن مراجعة صادقة تتجاوز ندوب الماضي وآثاره أملا قائما، وأني ألمح في الأفق إيجابيات عديدة في ظل العهد الجديد الذي هو امتداد لمشروع دستوري مبكر في التجربة الحديثة، ولم يأت نتيجة صراعات وحروب أهلية، ولا تلبية لرغبه خارجية ملحة، ولم يفرش بساطه الأحمر بالدماء، وهي مزايا نادرة لم تتوفر لغيره، وإذا ما أحسن استغلالها واستثمارها تصبح قادرة على تمكينه من مقدرة الإمساك بالقاعدة الفقهية الشهيرة «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، وبالحسابات السياسية تعتبر فرصة تاريخية استثنائية نحو التأسيس للدولة المدنية الديمقراطية، بعناصرها واستحقاقاتها ومتطلباتها العصرية كافة، وهو مطلب وطني في هذه المرحلة؛ ولعله الطريق الأسلم في تصليب البنية الداخلية من العواصف المقبلة؛ حيث الانفراد والإقصاء والتهميش في النماذج العربية نتائجها مؤلمة. لقد شاع كثيرا في المرحلة السابقة مصطلح العفو، ورغم مظهره الأبوي العاطفي، إلا أنه مصطلح غير سياسي، وتقف خلفه قوى معروفة لن تكون أحرص على مصلحة الوطن من الوطنيين أنفسهم، سواء كانوا في السلطة أم خارجها؛ مهما ادعت النصح والإخلاص وغيرها من الادعاءات. وكأن تعدد الآراء والاختلاف في الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يعد من الموبقات. وكان بالأحرى نحت مصطلح المصالحة الوطنية بمضامينها الشاملة.. وتبقى تطلعات القوى الاجتماعية في حرية العمل السياسي مشروعة، وهو من الضمانات الرئيسية للاستقرار على المدى البعيد؛ حيث يفسح في المجال لقطاع كبير من أبناء هذا الوطن العزيز، لهم اجتهادهم في خدمة وطنهم سابقا ولاحقا. في الذكرى الثامنة والخمسون المجد لمن قدموا أرواحهم في سبيل أن يحيا الآخرون، وعاشت عمان على طريق السلم والتقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
كاتب عماني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية