أصابت إيطاليا نوبة سخاء مفاجئة رغم أنها لا تزال تعاني ركودا اقتصاديا طال أمده. ذلك أن مبلغ الـ700 مليون يورو الذي أعلنت رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني تخصيصه للاستثمار في قطاعي الصحة والخدمات في تونس لا تفسير له، فالمعلومات منعدمة حول مصدره (إن وجد فعلا) ناهيك عن وجوه صرفه. ولا داعي لاستياء الأقوام الفيسبوكيين من «الاكتشاف» الصادم بأن ميلوني لا يهمها مصير تونس (التي زارتها الثلاثاء وتعتزم العودة إليها غدا الأحد مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فندرلاين) ولا تكترث لحال شعبها وشبابها أدنى اكتراث وإنما كل همها أن تفرض آلية كفيلة بوقف الهجرة الإفريقية من السواحل التونسية. فتلك هي القضية الوحيدة، إيطاليّا وأوروبيّا، ولا قضية سواها. ولن يفيد التمادي في لوم الآخرين وتحميلهم مسؤولية عجزنا وانفراط أمرنا. إذ الوضع السوي، بل العادي، هو أن يوفر كل بلد فرص الحياة الكريمة لأبنائه؛ أما وقد صارت معظم بلدان الجنوب طاردة لأبنائها قائمة، بعطالتها المزمنة، سدا منيعا بينهم وبين أي مستقبل ذي معنى، فإن هذا يحرمها من الحق في لغو الكلام المعتاد، أي انتقاد «عنصرية» بلدان الشمال التي لم تعد شعوبها تطيق مزيدا من المهاجرين (ويكفي التذكّر أن علة البركسيت، بداية ونهاية، هي أن بريطانيا لم تعد تطيق مزيدا من مهاجري أوروبا الشرقية البيض الشقر، فما بالك بسواهم!). وقد مضى زمن كانت فيه هذه البلدان، وخصوصا إيطاليا وفرنسا، هي التي تصدّر أبناءها ومشكلاتها الاقتصادية إلينا، سواء عبر الاحتلال العسكري أم الهجرة المكثفة دون استئذان: أي الهجرة الاقتصادية الرامية إلى العثور على فرص معيشة أفضل. ورغم أن هذه حقيقة من حقائق التاريخ القريب، بل المعاصر، فإنه لم يعد لها مكان في الذاكرة لا عندهم ولا عندنا.
تزايد تدفق الهاجرين الإيطاليين على تونس حتى بلغ أوائل القرن العشرين مائة ألف. أما الأرقام الرسمية فتقول إن عددهم عام 1936 تجاوز 94 ألفا
والشاهد أني دعيت قبل سنوات لإلقاء محاضرة في جامعة لورينتالي بمدينة نابولي الخلابة. وكان مما فاجأ الجمع أني قلت عرضا، في مجرد استطراد، إن الصورة التي شاعت منذ عقود هي أن موجات الهجرة إنما تأتي من الجنوب في اتجاه الشمال ومن ضفة المتوسط العربية (المغاربية والمصرية) إلى ضفته الأوروبية، ولكن الحقيقة التي يبدو أن قد طواها النسيان هي أن موجات الهجرة قد كانت، حتى منتصف خمسينيات القرن العشرين، تأتي من أوروبا إلى إفريقيا، ومن إيطاليا إلى تونس! قلت لهم: المهجر الأمريكي معروف لأن موجات من عشرات آلاف الإيطاليين ظلوا يتدفقون على مدى العقود على أمريكا، ولكن ما لا يعرف هو أن تونس كانت طيلة أكثر من قرن ونصف بلاد مهجر لكثير من أبناء الجنوب الإيطالي كله (لا جزيرة صقلية فحسب) وأبناء جزيرة مالطا.
بعد المحاضرة أتاني بعض الطلاب، وطلبوا أن نتقابل حول فنجان قهوة. كانوا يريدون الخوض في مسألتين: أولا معرفة المزيد عن المهجر التونسي الذي قالوا إنه لم يسبق لهم أن سمعوا أنه كان مقصدا لأسلافهم من الإيطاليين، وثانيا مساعدتهم، إذا أمكن، في الحصول على فرصة عمل في بريطانيا أو انتساب إلى إحدى جامعاتها (حيث كانوا يشكون انتشار البطالة في إيطاليا).
وقد نشرت مجلة «قرطاج ماغازين» أخيرا تحقيقا، بعنوان «عندما كان الإيطاليون يركبون قوارب الموت إلى تونس» يبين أنه لم يكن في تونس من الفرنسيين إبان فرض الاحتلال عام 1881 إلا سبعمائة، بينما كان عدد الإيطاليين عشرة آلاف! وكان ثمة هجرتان: هجرة «شرعية» بموجب اتفاق وقعته سلطات الاستعمار الفرنسي مع إيطاليا عام 1896، وأخرى سرية كانت تتم بالتسلل عبر البحر. وكان للهجرة سببان: الهرب من الفاقة في جنوب إيطاليا، والهرب (في العشرينيات) من اضطهاد الفاشية الموسولينية.
وقد تزايد تدفق الهاجرين الإيطاليين على تونس حتى بلغ أوائل القرن العشرين مائة ألف. أما الأرقام الرسمية فتقول إن عددهم عام 1936 تجاوز 94 ألفا. ورغم كل ما بذلته سلطات الاستعمار لتشجيع الفرنسيين على احتلال تونس فإن عددهم لم يتجاوز عامذاك 108 آلاف. وكان 70 بالمائة من الإيطاليين يعملون في البناء والزراعة. وأعرف منهم شخصيا من أحب تونس فبقي فيها بعد استقلالها، بمن فيهم خباز في بلدتي اسمه راندادزو كان يشجع فريقنا لكرة القدم بكل حماس. وقد تواصلت قبل أعوام مع السيدة ليليان راندادزو في فرنسا. كنت أظنها ابنته، فقالت لي إنه عمها كفلها بعد أن تيتمت، وإنه آل على نفسه ألاّ يعيش ويموت إلا في بلدتنا.
كاتب تونسي