«في وداع غابو ومرسيدس» كتاب صغير صدر حديثا عن دار أثر السعودية، كتبه رودريغو غارسيا، أحد إبني ماركيز، وترجمه للعربية أحمد شافعي. ولأن الكتاب خاص بماركيز، وفكرت أنه قد يحوي إضافات لا أعرفها عن الكاتب الذي تعلمت منه استخدام الخيال في بداياتي، وقرأت كتبه كلها، مرات، اقتنيته على الفور، وانهمكت فيه.
الكتاب كما قلت جاء في عدد محدود من الصفحات، وكان يمكن أن يكون أكبر حجما لأن ما فعله ماركيز في حياته، وما قدمه، وما فعله من تأثير حتى بعد موته، يظل منبعا جيدا للكتابة، خاصة إذا كان من يكتب عنه ولده الذي ولد وعاش معه، وانتقل للعمل في الإنتاج السينمائي في أمريكا، لكنه لم يفارق البيت أبدا. كان يعود في كل سانحة لمعانقة أبويه، والاستزادة من كنز وجودهما.
والحقيقة أن مرسيدس بارتشا نفسها لم تكن مجرد امرأة عادية لكاتب غير عادي، إنها سند قوي وقفت مع الكاتب الفذ من أجل أن يصل إلى ما وصل إليه، وأذكر قصة رواية «مئة عام من العزلة» التي رواها ماركيز في مذكراته، وكيف أن مرسيدس كانت توفر كل شيء من العدم، من أجل أن تكتب تلك الرواية، وقاما بإرسال نصفها للناشر لأنهما لا يملكان تكلفة البريد لإرسال المخطوط كاملا، واتضح بعد ذلك أن الجزء الذي أرسل، كان النصف الثاني من الرواية وليس الأول.
الكتاب ركز على مرض ماركيز الأخير وحتى وفاته قبل حوالي تسع سنوات، ركز على توهان الذاكرة، أي الخرف لواحد في الثامنة والثمانين، وكان مصابا بالسرطان، وهذا شيء متوقع في هذا العمر، لكل الناس، لكنه يغدو أمرا محزنا لكاتب قضى حياته معتنيا بذاكرته، وكتب بما انتزعه منها عددا كبيرا من الكتب المؤرخة لمجتمع أمريكا اللاتينية، وحروبها واشتباكاتها وفقرها وغناها، أيضا استخدم الخيال الذي يكونه الذهن في تبهير تلك المواد حتى تغدو سلسة ومدهشة.
ومعروف أن ماركيز ارتبط بجده الكولونيل، واستوحى منه شخصية الكولونيل أوريالنو بونديا في رواية «مئة عام من العزلة» وقد ذكر رودريغو أن والده ارتبط بالجد بالرغم من تركه له في سن مبكرة، لكن ظلت كل ذكرياته عن ذلك الجد حاضرة عنده، ويستعيدها كثيرا، حتى وهنت ذاكرته.
هنا أيضا وصف لما كانت عليه ذاكرة ماركيز في توهانها الأخير، المرتبط بمرض النهاية، يقول الإبن أن والده كان يعرف بعض الأشياء وبعض الوجوه، لكنه نسي معظم ما كان يعرفه، حتى مرسيدس الزوجة والحبيبة التي تقدم للزواج منها وهو مراهق، لا يتعرف عليها، والولدان يسأل حين يراهما: من هذين الرجلين؟ وحين يخبرونه أنهما ولداه، يستغرب أن أنجب رجلين ناضجين ولا يعرف.
بالنسبة لطاقم علاجه من ممرضات وأطباء، وطاقم رعايته الأخرى، وإنجاز المهام له مثل السكرتيرة ومدير الأعمال، كان يتقبلهم بوصفهم وجوها مألوفة لديه، لكن لا يعرف بالضبط متى وجدوا في بيته، وماذا يفعلون، ولو حكيت له طرفة ما، لم يكن يستوعبها، أو يضحك لها.
هذه بالضبط أعراض الألزهايمر، أو الخرف، وهو هنا طبيعي لأن السن ليست صغيرة، ولكن كما قلت يظل معضلة لكاتب كبير، كان يستخدم عقله في كل حياته.
يتحدث رودريغو باقتضاب عن علاقة والده بوالدته، كأنما لا يريد أن يضيف إلى أقوال والده عنها، والحقيقة أن ماركيز كان واضحا في محبته للزوجة، وتكفي عبارته الشهيرة التي كانت تكتب في كل روايته تقريبا: إلى مرسيدس طبعا.
وطبعا هذه تلخيص مبدع لما يمكن أن تكون عليه الأشياء، إنها أفضل من كلمات كثيرة تكتب في الإهداءات.
تحدث الإبن بإسهاب عن معضلة الشهرة إذا ارتبطت بمريض منهك لا يود أهله أن يعرضونه لخطر التقارير الصحفية، والصور التي تظهره ضعيفا محمولا على محفة، أو سرير طبي، وذكر أن ذلك كان مستحيلا، لأن كل الناس في مكسيكو سيتي عرفوا بمرض والده، وأصبح وجوده في المستشفى صعبا، ومنهكا له وللعائلة، إضافة إلى توصية الأطباء بإعادته إلى المنزل، لأن لا شيء جديدا يمكن عمله في المستشفى، وهذه التوصية في قانون العلاج، حكما بالموت لمريض معتل، ودائما ما تقال حين تستنفد كل الطرق المتاحة لعلاج أحدهم، وهي أيضا تحفيز لمشاعر أهل المريض، لتجهيز ما يمكن تجهيزه من عزاء وحزن حين تأتي النهاية.
الذي حدث أن ماركيز نقل إلى منزله في تلك الضاحية الهادئة الراقية من مكسيكو سيتي، وانتقل معه كل الصخب الذي يحيط به في المستشفى وحولها، وتمت مطاردة سيارة الإسعاف التي نقلته، وتصويرها، وتصوير المحفة التي حملته، وأصبح ثمة تجمع متزايد من الصحفيين والقراء والمحبين حول البيت في انتظار أي تطور في صحة المريض المهم. وبالطبع لم يكن سيحدث تطور إيجابي، فالرجل في شبه غيبوبة، ويحظى بنوم دائم بسبب المهدئات التي تمنح له، ولم يكن يعي ما حوله، وأنه ليس في غرفة نومه ولكن في غرفة بعيدة عن الضوضاء، تم تجهيزها بالسرير الطبي، وجهد الممرضات، وموسيقى كان يحبها كثيرا، وكانت تبث كأمل وحيد وأخير في إنعاش ذاكرته إن حدث واستيقظ.
نحن عبر الكتاب كما قلت، نتتبع الأيام الأخيرة لماركيز، أكثر من تعرفنا على حياة البيت التي عاشها رودريغو وأخوه مع الأم والأب، ورودريغو هنا لا ينسى تدوين مشاعره الخاصة، وكيف كان مضطربا وخائفا، وينتظر الرحيل ولا ينتظره في الوقت نفسه، وحتى الفيلم الذي كان يعمل عليه في نيويورك، كأن يعمل عليه بمشقة.
عموما هو كتاب جدير بالمطالعة، وقد يصيبك بالحزن في كثير من مقاطعه، وقام أحمد شافعي بترجمته بإبداع، وصراحة كنت أتمنى أن يمتد أكثر.
*كاتب من السودان