الميزانية المصرية الجديدة تقودها رياح إيجابية خارجية وتعوقها رياح سلبية محلية

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

الديون ليست المشكلة الوحيدة التي يواجهها الاقتصاد المصري، وإن كانت أكبرها وأكثرها شدة. وطبقا لآخر تقرير صادر للبنك المركزي بشأن الوضع الخارجي لمصر، فقد ارتفعت الديون الخارجية في الربع الأخير من العام الماضي إلى 162.9 مليار دولار. وتحتاج مصر إلى تدبير 75.9 مليار دولار حتى نهاية عام 2026 منها 11.3 مليار دولار في النصف الثاني من العام الحالي، و28 مليارا في عام 2024. وخلال السنوات الماضية ألقت الحكومة المصرية اللوم على تطورات سلبية خارجية كانت وراء اضطراب الأداء الاقتصادي، مثل الحرب الروسية – الأوكرانية، وارتفاع أسعار الفائدة على الدولار، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. ولم تذكر الحكومة سببا واحدا محليا لاضطراب الأداء الاقتصادي الذي بلغ ذروة جديدة في السنة المالية التي تنتهي في آخر الشهر الحالي. بل إن الحكومة لعبت دور البطل أمام الناس في مسرحية هزلية تقضي فيها على تأثير العوامل الخارجية حتى انتصرت عليها!
السنة المالية الحالية سجلت تطورات اقتصادية سلبية أهمها انهيار قيمة الجنيه المصري بنسبة تقترب من 100 في المئة أمام الدولار، وارتفاع التضخم الأساسي إلى مستوى قياسي بلغ حوالي 40 في المئة، وهبوط معدل النمو بنسبة 36 في المئة عن النمو المتوقع، وتراجع احتياطي النقد الأجنبي بنسبة 7.2 في المئة، وارتفاع الدين الحكومي الداخلي والخارجي إلى 96 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

تراجع أسعار الغذاء والطاقة

لكن العام الحالي يحمل أخبارا إيجابية تساعد على تحقيق أهداف الموازنة العامة للدولة بلا معوقات، بافتراض سلامة السياسة الاقتصادية والجدية في تحقيق الإصلاحات المطلوبة. وعلى العكس من العام الماضي، فإن الحكومة لن تجد مبررات لإلقاء اللوم على العوامل الخارجية في ارتفاع التضخم والغلاء وزيادة العجز وتدهور قيمة العملة المحلية. وتشير توقعات البنك الدولي للعام الحالي أن الرقم القياسي لأسعار الحبوب قد بلغ 138 في المئة في اذار/مارس من العام الحالي مقابل 169 في المئة في شباط/فبراير من العام الماضي، وأنه يواصل الانخفاض، وهو ما سيترك أثرا مهما في تخفيض أسعار الغذاء التي تراجعت إلى أقل مستوى منذ عامين. كما قال البنك أن الرقم القياسي لأسعار النفط الخام قد انخفض منذ اب/أغسطس من العام الماضي من 173 في المئة إلى حوالي 104 في المئة في اذار/مارس 2023. ونظرا لأن توقعات أسعار الفائدة على الدولار اعتبارا من النصف الثاني للعام الحالي تتجه إلى الثبات أو الانخفاض، فإن الضغوط الدولارية على عملات الدول الأخرى، خصوصا النامية ستقل، الأمر الذي يسمح بمرونة أكبر في إدارة السياسة النقدية، وهو ما لم يكن متاحا في العام الماضي.
ولذلك فإن تراجع أسعار الغذاء والطاقة وأسعار الفائدة الأمريكية يمكن أن يلعب دورا كبيرا في الحد من الغلاء والتضخم واضطراب أسعار العملات. وكانت قيمة الجنيه المصري قد انخفضت رسميا إلى 31 جنيها للدولار مقابل 15.6 جنيه، كما ارتفعت أسعار الفائدة المحلية على أذون الخزانة إلى ما يقرب من 23 في المئة مقابل توقعات حكومية تبلغ حوالي 14 في المئة فقط. وفي هذا السياق تتوقع الحكومة أن تنخفض نسبة التضخم على مدار السنة المالية الجديدة إلى 16 في المئة، وأن ينخفض متوسط العائد على أذون الخزانة إلى 18.5 في المئة. ومن هنا فإن الإدارة الاقتصادية أصبحت تعمل في ظروف أفضل خارجيا، تنذر بالقليل من التحديات. لكنها في الوقت نفسه تعمل تحت ضغوط محلية شديدة يمكن أن تعرقل تحقيق أهدافها، أخطرها عبء الديون وتدهور قيمة الجنيه المصري، واستمرار الضغوط التضخمية المحلية وليس التضخم المستورد. ومن ثم فإن نسبة النجاح في تحقيق أهداف الموازنة الجديدة يتوقف على حسن إدارة الحكومة للاقتصاد والتعامل مع التحديات الداخلية.

ثقوب في قواعد الانضباط المالي

مشروع موازنة السنة المالية الجديدة مليء بالثقوب الأخرى إلى جانب ثقب الديون الواسع. من أهم تلك الثقوب ما تكشفه العلاقة بين وزارة المالية من جهة وكل من الهيئات الاقتصادية للدولة، ومشروعات الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص، والأجهزة التي تقوم بتنفيذ المشروعات الاقتصادية الكبرى من جهة أخرى، عن واحد من أكبر الثقوب في الموازنة العامة للدولة بعد الديون. وتظهر أرقام الموازنة أن قيمة ما يؤول من الهيئات الاقتصادية للدولة، ومنها هيئات ضخمة مثل السكك الحديد والتنمية العمرانية والبترول، يقدر بحوالي 299 مليار جنيه. في حين أن قيمة ما تقدمه الموازنة العامة للدولة إلى هذه الهيئات من دعم يبلغ 481 مليار جنيه تقريبا. أي أن صافي العلاقة يبلغ قيمة سلبية (- 182 مليار جنيه) بنسبة 38 في المئة تقريبا مما تقدمه الدولة.
ولا يتوقف عبء الهيئات الاقتصادية عند حدود العجز في العلاقة مع المالية العامة، بل إنه يتجاوز ذلك إلى مجال خطير، يتعلق بالضمانات التي تقدمها وزارة المالية لتغطية القروض المحلية والأجنبية، التي تحصل عليها هذه الهيئات من السوق. وبمقتضى هذه الضمانات تلتزم وزارة المالية بسداد أقساط وفوائد الديون المستحقة على الهيئات الاقتصادية العامة في حال عجزها عن سداد المدفوعات المستحقة عليها. وتبلغ قيمة هذه الضمانات في الوقت الحاضر ما يقرب من 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد لاحظ الجهاز المركزي للمحاسبات وجود أخطاء كبيرة في رصد وتبويب هذه الالتزامات في الموازنة العامة للدولة في العام الماضي. ومن الملاحظ طبقا للبيان المالي للموازنة العامة الجديدة أن قيمة القروض والتسهيلات المالية المضمونة بواسطة الخزانة العامة للدولة، لتمويل المشروعات القومية والمرافق العامة قد وصلت إلى ما يعادل 29.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في كانون الثاني/يناير الماضي مقابل 24 في المئة في نهاية السنة المالية 2021/2022.
وبعد أن تفاقم التأثير السلبي للضمانات المصرفية التي تقدمها وزارة المالية للهيئات الاقتصادية العامة، قرر مجلس الوزراء في تشرين الأول/أكتوبر الماضي وضع حد أقصى للضمانات الجديدة المصدرة قيمته 100 مليار جنيه سنويا أي ما يعادل حوالي 3.2 مليار دولار بالسعر الرسمي للجنيه. وتغطي هذه الضمانات تمويل قروض محلية أو خارجية للهيئات. وتعتبر الهيئة المصرية العامة للبترول الجهة الأكبر في الحصول على ضمانات من الحكومة، إذ تستحوذ وحدها على نسبة 39 في المئة من الضمانات الكلية، مقابل 15 في المئة لشركات الكهرباء. أي أن قطاع الطاقة وحده يستحوذ على 54 في المئة من الضمانات التي تقدمها الحكومة وتلتزم بسداد كل أعبائها في حال تعثرت الجهات المستفيدة. وتأتي هيئة المجتمعات العمرانية في المركز الثالث بنسبة 13 في المئة، ثم الهيئة القومية للإنفاق بنسبة 8 في المئة، وهيئة قناة السويس 3 في المئة والهيئة القومية لسكك حديد مصر 2 في المئة والهيئة العامة للسلع التموينية 2 في المئة، ثم هيئات وجهات أخرى مختلفة بنسبة 18 في المئة.

المشاركة بين الحكومة
والقطاع الخاص

لا تتوقف التزامات الموازنة عند حدود تقديم الدعم والضمانات المصرفية للهيئات الاقتصادية العامة، وإنما تلتزم الخزانة العامة للدولة أيضا بتغطية المخاطر التي يمكن أن تتحملها شركات القطاع الخاص في مشاريع المشاركة مع الدولة. وتنشأ هذه الالتزامات لتغطية المدفوعات المترتبة على الحكومة مقابل شراء المنتجات أو الخدمات التي تحصل عليها من المشروعات المشتركة طوال مدة التعاقد. على سبيل المثال إذا دخلت شركات القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي في شراكة مع الدولة لبناء محطة كهرباء أو مد خط للمترو أو محطة حاويات أو مستشفى، فإن الدولة تلتزم بشراء الخدمة أو السلعة، ثم إعادة تقديمها للمواطنين. وهي في هذا الحال تلتزم بالوفاء بالدفع أيا كانت الظروف. في هذه الحالة تلتزم الخزانة العامة للدولة بسداد الفرق بين المتحصلات الفعلية من النشاط وبين القيمة الكلية المتفق عليها إذا كانت الإيرادات أقل. كما تلتزم الدولة أيضا بحدود دنيا للتشغيل، حتى وإن انخفضت معدلات التشغيل الفعلي عن الحد الأدنى. وفي هذه الحالة تسدد الخزانة العامة للدولة الفرق الناتج بسبب انخفاض معدل التشغيل. كما تلتزم الخزانة العامة للدولة بتغطية فروق أسعار الصرف في حال عدم استقرار أسعار العملات سواء بسبب تقلبات السوق العالمي أو بسبب التغير في السياسة النقدية. كما تتحمل الموازنة العامة للدولة تغطية مخاطر نقل الملكية أو إحلال شركات القطاع العام محل القطاع الخاص في تشغيل الخدمة أو الإنتاج في حال فشل القطاع الخاص.
وتعتبر التزامات الموازنة العامة للدولة بمقتضى اتفاقيات الشراكة مع القطاع الخاص بابا واسعا من أبواب الفساد وعدم الانضباط المؤسسي، التي تهدد الاستقرار المالي والتوازن الاقتصادي الكلي. وإذا أخذنا مشروعات الطاقة أو محطات المياه، أو المراكز اللوجستية على سبيل المثال، فإن مشاركة القطاع الخاص في هذه المشروعات طبقا للنظام المعمول به، لا تتحمل أي مخاطر تقريبا، لأن الحكومة تكون ملتزمة بشراء الخدمة أو السلعة، وملتزمة بتحقيق الحد الأدنى من التشغيل الذي يحقق عائدا مضمونا على رأس المال، وتقديم كافة الضمانات الأخرى للشركاء، وتلتزم بدفع مقابل ذلك من التكاليف حتى وإن انخفضت الإيرادات عن الحد الأدنى المضمون. ولنا أن نتصور مثلا أن مشروعا للقطارات نشأ على أساس المشاركة، ثم ظهر بعد ذلك أن تسعير الخدمة كان مرتفعا، أو أن الخدمة سيئة بما قلل الإقبال على استخدام الخط، فإن الموازنة العامة للدولة تتحمل تكاليف هذا الفشل.
ويوجد بالفعل عدد كبير من المشروعات التي تم إعدادها بنظام المشاركة مع القطاع الخاص، منها مشاريع تم طرحها وتوقيعها بالفعل، وأخرى تحت الطرح، إضافة إلى مشاريع جاري إعدادها للطرح أو تدبير التمويل اللازم للدراسات الخاصة بها. وتبلغ قيمة مشروعات المشاركة مع القطاع الخاص المتعاقد عليها فعلا والمطروحة والتي يتم الإعداد لها في السنة المالية الحالية ما يقرب من 70 مليار جنيه أو ما يعادل حوالي 2.2 مليار دولار. وتشمل هذه المشروعات محطة مياه القاهرة الجديدة ومجموعة من الموانئ الجافة في مدن 6 أكتوبر والسادات وبني سويف، والمراكز اللوجستية للموانئ الجافة والبحرية منها مركز ميناء سفاجا، إضافة إلى مشاريع لتقديم الخدمات التعليمية والصحية. هذا الثقب الكبير في الموازنة يحتاج إلى إصلاحات هيكلية وليس مجرد تسويات محاسبين.
وتستهدف موازنة العام الحالي تحقيق معدل نمو بنسبة 4.1 في المئة، وتخفيض الدين العام إلى 91.3 في المئة من الناتج المحلي، وتحصيل ما قيمته 70 مليار جنيه مصري من برنامج طروحات الشركات الحكومية، وزيادة الإيرادات العامة بنسبة 41 في المئة. كما تستهدف الموازنة اجتماعيا تخفيض معدلات الفقر والأمية وتقديم إعفاءات ضريبية لغير القادرين بمضاعفة حد الإعفاء الضريبي، وزيادة دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي. بما يسهم في رفع مستوى المعيشة وتحقيق الانضباط المالي والتوازن الاقتصادي الكلي. لكن تحقيق هذه المستهدفات يرتبط بسد الثقوب والثغرات وإدخال الإصلاحات الهيكلية المطلوبة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية