معرة مصرين السورية: تاريخ يعود إلى عصور ما قبل التاريخ

حسام محمد
حجم الخط
0

تصنف محافظة إدلب الواقعة في الشمال الغربي من سوريا كإحدى أهم الحضارات التاريخية في البلاد لما تضمه من معالم أثرية يتجاوز إجماليه عتبة 750 موقعا أثريا، فيما تكتسي تلك الآثار بتنوع معماري معتق بحضارات تاريخية يعود تاريخ إنشاء بعضها إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد.
ولكن رغم تنوع الحضارات البشرية التي تناوبت وتبدلت عبر التاريخ في محافظة إدلب، من حضارات آرامية وآشورية وأخرى يونانية وبيزنطية إلى إسلامية، إلا أن كل تلك المعالم التاريخية التي تروي قصص من حلوا هنا وارتحلوا، ومن شيد فيها القرى والقصور إلى ساحات الحروب وما خلفته الطبيعة من كوارث، ولا توغل إدلب في مركز التاريخ وصولا إلى عهد الإنسان الأول، لم يشفع لهذه المحافظة بنيل الاهتمام الضروري لديمومتها والرعاية الخاصة التي تحتاجها آثارها ومعالمها من قبل النظام السوري طيلة العقود الخالية، ليصبح بعضها في طي النسيان وأخرى تحاول انتزاع الحياة كلما اشتدت الحرب، ومعالم أثرية تواجه عمليات التنقيب غير المشروع عن الآثار بهدف تهريبها خارج الحدود السورية.
معرة مصرين الواقعة في الجزء الشمالي من محافظة إدلب بمسافة 11 كيلو مترا، تعد من إحدى أقدم المدن في الشمال السوري، فجذورها ضاربة في عمق التاريخ، بل تصل بدايتها إلى ما قبل التاريخ، وعمرها يزيد عن 5 آلاف سنة، ومعالم أثرية مرت عليها حقب زمنية وأحداث تاريخية، كانت شاهدة على قدم هذه المدينة.
نالت أهميتها أكثر فأكثر بعد الفتح الإسلامي، خاصة بعد أن دخلها أبو عبيدة بن الجراح فاتحا في زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب سنة 17 للهجرة.
تتميز مدينة معرة مصرين، بالتخطيط العمراني الخاص، وتتوسط منطقة إدلب شمال غرب سوريا، وهي مركز ناحية، تتشكل من بلدة معرة مصرين ومزارعها، وتتبع لها قرى وبلدات باتنتة، بيرة كفتين، تلتونة، حربنوش، حزانو، كللي، زردنا، رام حمدان، معارة اخوان، كفتين، كفرجالس، كفربني، كفريا، ويحدها غرباً جبل السماق الموطن الأساسي للدروز، الذي يضم 18 قرية أبرزها كفتين ومعارة اخوان وبيرة كفتين على الحدود الغربية لمدينة معرة مصرين، وشرقاً تحدها قرية كفرينا والفوعة ذات المذهب الشيعي، وشمالاً قرى كفريحمول وحزانو ومدينة سرمدا، وجنوباً مدينة إدلب.

هوية معرة مصرين

عرفت معرة مصرين حسب العديد من المراجع والمصادر التاريخية بمسميات عدة، منها معرة قنسرين أو كورة قنسرين، نظراً لتبعيتها لجند قنسرين بلدة العيس حالياً جنوب غرب حلب، التي كانت عاصمة سوريا الشمالية في عصور الرومان قبيل الفتح الإسلامي وتتبع لها حلب، وتسمى أيضاً معرة نسرين، وتشير المصادر إلى وجود وثيقة تاريخية عمرها 941هـ، تذكر قرية اشعاف من ناحية معرة نسرين وقضاء سرمين، وكذلك وردت في وثيقة رسمية تاريخية باسم معرة مصرين المعمورة، لأن المنطقة نهضت عمرانياً واقتصادياً في القرن السابع عشر.
وتعرف أيضا بذات القصور لأن أثرياء حلب وبني حمدان أنشأوا فيها القصور وهي من قرى الجزر، منطقة واقعة من جنوب جبل الأربعين إلى سهل الخلقة أو ما يعرف بسهل سرمدا.
ولكن المرجح في ذلك، أن معناها حسب التحول التاريخي للاسم أصلها مغارة النسرين «معرة نسرين» وظل هذا الاسم الشعبي سائداً، والاسم الرسمي معدل إلى معرة مصرين، إلى القرن العشرين معرتمصرين، وتعني مغارة النسور، أي قرية الشجعان بالآرامية.

حضارة في قلب الطبيعة

يحدثنا أحمد معمار أحد أبناء المدينة المهتمين بتاريخها، حيث ينسب معلوماته إلى مصادرها حسب قوله، يقول إن أول من ذكر المدينة من الجغرافيين العرب ابن خرداذبة قبل ياقوت في (300 هـ) معددا كور قنسرين العاصمة الإدارية الأولى في المنطقة قائلاً: «إن من كورها كورة معرة مصرين وكورة مرتحوان وكورة سرمين وكورة حلب».
أما ياقوت الحموي (626 هـ) فذكرها في كتابه «معجم البلدان» بقوله «مصرين هي بليدة وكورة بنواحي حلب» وكورة تعني هنا ما يعادل منطقة الآن.
وأكَد ابن العديم (ت 660 هـ) في «بغية الطلب في تاريخ مملكة حلب» أن بلد معرة مصرين تعود إلى جبل السماق، بلد التين والزبيب والفستق والسماق، ولها سور قديم مبني بالحجر، وقد تهدم، وكاد ألا يبقى منه إلا الأثر، وكان الفرنج قد استولوا عليها حين استولوا على الأتارب وزردناً.
كما وصفها ابن شداد (ت 684 هـ) بقوله «ويقال فيها مَعَارة مصرين، بلدة مشهورة، محفوفة بالأشجار، وشُرب أهلها من ماء الأمطار، أهلها ذوو يسار وأموال وأملاك، ويقال هي التي تعرف بذات القصور وهي من قرى الجزر» والجزر هنا هي المنطقة الواقعة جنوب جبل الأربعين إلى سهل الحلقة (سهل سرمدا) وشرق جبل الأعلى وجبل السماق، وهو اسم جغرافي أطلقه المؤرخون في العصر الوسيط لأن بعض القبائل العربية تجذرت فيه أي استوطنت.

حقب تاريخية غنية

كانت معرة مصرين، من الحواضر الهامة التابعة للمالك القديمة ايبلا، ألالاخ، يمحاض، تناوبت على المدينة عدة حضارات، كالحضارة الرومانية، إلى الفتح الإسلامي والدول المتلاحقة، من الأمويين والعباسيين، والدولة الأيوبية، الحمدانية، ودولة المماليك التي اشتهرت في عهدها وشهدت تطوراً عمرانياً واقتصادياً، كما تعرضت للغزو المتكرر من الروم والمغول، ما سبب دماراً كبيراً في معالمها الأثرية.
المؤرخ السوري والباحث الثقافي فائز قوصرة الذي تجاوز الثمانين من عمره، الذي دأب في مسيرته الحافلة على التعمق في مجال آثار إدلب وإرثها التاريخي، يقول لـ «القدس العربي» عند سؤاله عن معرة مصرين التي كان قد أفرد لها كتابا خاصا اسماه «معرة مصرين- ذات القصور»: «معرة مصرين إحدى أكبر المدن في الشمال السوري قبل الفتح الإسلامي، كما كانت على مذهب مغاير لجيرانها، لذا قصدها أبو عبيدة بن الجراح ليفتحها عنوة، كما قصدها الأمير البيزنطي نقفور فوكاس ودمر منبر جامعها، وسميت بذات القصور في زمن سيف الدولة الحمداني».
وتابع قائلاً، أقدم ما يشير إلى وجود المدينة قبل الإسلام، هو وجود دير فيها يرقى إلى القرن السادس الميلادي، وتوجد وثيقة تاريخية في المتحف البريطاني باللغة السريانية عام745 ميلادي ذاكراً النساء القديسات في ديرة بلدة معرة مصرين في كورة أنطاكية، وهناك لقى أثرية وجدت أثناء حفر أساسات المنازل وتجديد المسجد الكبير، تشير لحقب تاريخية إلى ما قبل الفتح الإسلامي.
ففي العهد البيزنطي كانت معرة مصرين وسرمين الواقعة شرق إدلب، تتبعان المذهب الخلقيدوني، المذهب الموالي لأنطاكيا آنذاك، التي كانت مركزاً لبطريركية أنطاكيا الخلقيدونية، على عكس المناطق المحيطة بهما والتي تتبع المذهب المنوفيزي، فكان أتباع كل مذهب يبنون مدرسة تابعة لهم، فيوجد الدير الخلقيدوني.
وهو الآن مقام الخضر إلى الغرب من معرة مصرين، ويدعى أيضاً دير مارجرجس، ولكنه اسم الوثائقي «دير ماري-مريم كانون» وكان ديراً للقديسات العذارى.
ولعل سبب توجه أبو عبيدة بن الجراح لفتح معرة مصرين وسرمين حسب ما قاله الباحث قوصرة لـ «القدس العربي» هو اتباعهما لمذهب أنطاكيا البيزنطية، حيث لجأ قادة الروم لنصرة مواليهم، حيث فُتحت على يد أبو عبيدة بن الجراح في معركة ضارية مع الروم انتصر فيها وقتل 12 بطريقاً (قائدا عسكريا) رمياً بالنبال.
فيما تشير الدلائل أن أهالي معرة مصرين المسيحيين من المذهب الخلقيدوني الماروني، قد هاجروا مع الزمن إلى لبنان في أواخر القرن الثاني عشر.

ذات القصور

يشار إلى أن منطقة معرة مصرين، قد حظيت برعاية واهتمام الحمدانيين، إذ كانت منتجعاً لهم فابتاعوا فيها الأراضي، يذهبون إليها أوقات راحتهم يمضون فيها بعض لياليهم، فبنوا فيها القصور والدور، ولذلك عُرفت باسم ذات القصور.
فقد ورد عند المؤرخ ابن العديم، قوله: «يقال إنها هي التي تعرف بذات القصور، وكان أكابر حلب وأعيانها يرغبون في اقتناء الأملاك بها، واتخاذ الدور والمنازل فيها، ويجلب منها الزيت الكثير».
ويبدو أن هذه القصور قد دمرت بفعل غزوات الإمبراطور البيزنطي نقفور فوقاس، أيام سيف الدولة الحمداني، فقد احتلها نقفور ودمر دورها وقصورها، ومسجدها الكبير، بعد وفاة سيف الدولة بعام، سنة 357 ه/968م.

أبرز المعالم الأثرية

معرة مصرين غنية بالمعالم الأثرية، نتيجة قدمها التاريخي، وتناوب حضارات كثيرة عليها، وحسب ما يقول فائز قوصرة، فالمدينة تحتوي على قرابة عشرين موقعاً أثرياً، أبرزها مسجد المدينة الكبير، الذي يتوسطها بزخرفه العمراني ونقوشه التاريخية، التي تدل على العهد البيزنطي وعهود الأيوبيين والحمدانيين والمماليك، وما يميزه القبب والأعمدة والأقواس الكثيرة، وباحته الواسعة المرصوفة، وتحتها بئر ماء تجميعي، يُملأ من مياه الأمطار.
كما أن الأعمدة القديمة الأسطوانية تؤكد أن أصل هذا الجامع كان كنيسة، وقد تعرض الجامع للتدمير أكثر من مرة، آخرها تدمير المئذنة من قبل الاحتلال الفرنسي، وتدمير أجزاء منه بفعل القصف المدفعي والصاروخي من قبل قوات النظام السوري.
كما يوجد مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجانب الجنوبي الغربي للمدينة وفوق مدخله كتابة عربية قديمة غير منقطة «بسم الله الرحمن الرحيم لا إله الا الله.. علي ولي الله، هذا مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بناه سلطان بن إبراهيم بن علي في سنة 724 هـ».
ويوجد مقام الملك الصالح أحمد وهو الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، حيث بنى فيها 28 مسجداً وجامعاً وبنى الحصون والقصور وأعاد رونقها وسميت بعاصمة الجزر.
وفي الجزء الغربي الجنوبي بـ 1 كم يوجد مقام يقال له الخضر، فيه باحة سماوية وفي داخلها من الجنوب محراب وقبة مقامة على قناطر بحجرتين اليمنى مقام إبراهيم (رجل صالح يدعى الشيخ إبراهيم بن علي بن احمد) والأخرى الغربية مقام الخضر.
ومن الآثار الأخرى مسجد أبناء الخليل «إبراهيم عليه السلام» الذي قدم إلى معرة مصرين مهاجراً من مدينة الرها المعروفة أيضا باسم اورفا، وتزوج عذراء منها وأنجبت له ثلاث أولاد ذكور فماتوا جميعا قبل سن البلوغ وبنا عليهم مسجدا في الجهة الشرقية من المدينة يدعى حتى الوقت الحاضر مسجد أولاد الخليل بالقرب من التل المسمى تل الخليل.

الصور: خاصة بالقدس العربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية