في الاسبوع الماضي وصل وزير الخارجية الأمريكي إلى الرياض، في زيارة تستهدف تعزيز العلاقات بين الحليفين الاستراتيجيين، في مرحلة تشهد المزيد من التقارب السعودي ـ الصيني، والسعودي الإيراني. كما بات واضحا أن الرياض أصبحت غير معنية بالحصول على الضوء الأخضر من واشنطن، عندما تضع أجنداتها السياسية والاقتصادية. وكان آخرها إقدام الرياض على خفض جديد لإنتاج النفط بمقدار مليون برميل يوميا. وهذه الخطة لا شك ستزيد من نسبة التضخم في الولايات المتحدة والدول الغربية. فهل واشنطن قادرة على إعادة قطار العلاقات بين الطرفين إلى السكة القديمة؟ أم أن الرياض حسمت أمرها في الاتجاه نحو الشرق؟
بات من الواضح أن الرياض لم تعد تسير على النمط نفسه في السياسة الخارجية، كما أن واشنطن هي الأخرى أيضا لم تعد كذلك. اليوم نشاهد أن هناك استقلالية أكبر من قبل صانع القرار السعودي، في رسم سياسة خارجية خاصة، بعيدا عن أي تلازم مع الولايات المتحدة، وفي صفحة تكاد تكون مختلفة. في حين شهدت العقود الماضية وجود نوع من توجه مماثل بين الطرفين في السياسات العامة. كما كان واضحا وجود سعي سعودي لعدم تبني سياسة خارجية تتعارض، أو تتناقض مع سياسات الولايات المتحدة، لكن هذا لا يعني أن هناك انهيارا تاما في العلاقات بين الطرفين، فتاريخية العلاقة بينهما قادرة على الدفع بأسهم التعاون والتوافق إلى أمام، لكن عامل الثقة من جانب الرياض في واشنطن قد تزعزع كثيرا في السنوات القليلة المنصرمة، ولم تعد ترى أن هناك صوابية في الخيارات الأمريكية، وكذلك في السياسة الخارجية تحديدا نحو الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك، أن السعودية بدأت ترى أن العالم قد تغيّر ولم يعد أحادي القطبية، وأن هناك نظاما دوليا جديدا يتشكل، ما دفعها للتخلي عن الحصول على الضوء الأخضر من واشنطن عندما تضع أجنداتها. ولعل الدليل الأبرز على هذه الحالة هو السياسة السعودية في ظل الحرب الأوكرانية ـ الروسية، حيث اتخذت الرياض مسار الحياد فيها، وكذلك موقفها في «أوبك بلاس» الذي كان في مسار معاكس للرغبة الأمريكية.
يقينا أن العلاقات السعودية الأمريكية لن تعود كما كانت من قبل، وأن ركيزتها الرئيسية التي كانت قائمة على معادلة الأمن مقابل الطاقة، منذ لقاء الملك عبدالعزيز والرئيس الأمريكي روزفلت، لم تعد قائمة اليوم، فهناك مُعطيات كثيرة تبدّلت مع تقادم السنين، إحداها مسألة الطاقة السعودية التي لم تعد تذهب بشكل رئيسي إلى الولايات المتحدة والغرب. اليوم زبائن النفط السعودي في آسيا، الصين والهند وباكستان واليابان وكوريا الجنوبية، وهذا تموضع اقتصادي كبير وجديد ومهم قامت به المملكة. وفي السياسة حصل تغير كبير كذلك، ابتدأته واشنطن قبل الرياض، فالرئيس الأمريكي الأسبق أوباما هو الذي أعلن الاستدارة نحو آسيا والمحيطين الهادي والهندي، كما راهن على الشراكة مع إيران في الاتفاق النووي، ووضع العلاقة معها في قمة أهدافه، على حساب العلاقة مع السعودية والخليج. أما ترامب فعلى الرغم من أن العلاقة بين الرياض وواشنطن شهدت طاقة إيجابية في عهده، لكنه ابتز العائلة المالكة ماليا وسياسيا. في حين أن بايدن هاجم المملكة حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض، وروّج في حملته الانتخابية أنه سيجعلها دولة منبوذة في العالم. كل هذه الإجراءات التي تُعتبر غير ودية في العلاقات الدولية، وغير المطروقة في العلاقة ما بين الحلفاء، قابلتها ردة فعل سعودية، استثمرت في الحاجة الماسة للطاقة عالميا، التي فجرتها الحرب الروسية ـ الأوكرانية. فذهبت إلى تنويع علاقاتها الدولية أولا. وثانيا إعادة تنظيم علاقاتها مع الولايات المتحدة، من خلال وضع أساس جديد في هذه العلاقة، قائم على تلبية مصالح الطرفين وليس مصالح الولايات المتحدة وحدها، كما كانت وفق السياق القائم سابقا، لكن هل يمكن لواشنطن التخلي عن الرياض؟ وهل يمكن للأخيرة التخلي عن الأولى؟
السعودية بدأت ترى أن العالم تغيّر ولم يعد أحادي القطبية، وأن نظاما دوليا جديدا يتشكل، ما دفعها للتخلي عن الحصول على الضوء الأخضر من واشنطن عندما تضع أجنداتها
لا يبدو أي من الاحتمالين قائما على المدى القصير والمتوسط، صحيح أن الرياض ذهبت للاتفاق على المصالحة مع طهران في مارس/ آذار عام 2023، برعاية صينية، مصالحة تأتي بعد سنوات من الحروب بالوكالة، دفعت جميع الأطراف أثمانا باهظة فيها، ولم يقف البلدان عند هذا الحد، بل قاما بتفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة بينهما في عام 2001. كل هذه خطوات تأتي في الاتجاه المعاكس للسياسة الأمريكية تجاه طهران وبكين، لكن لو نظرنا إلى الزيارات التي قام بها مسؤولون أمريكيون للرياض، يتضح أن تخلي الولايات المتحدة عن السعودية ليس مجدوّلا حتى اللحظة. ففي شهر يوليو/تموز من العام الماضي، زار بايدن المملكة، ثم أتت زيارة أخرى لمدير سي آي أيه، تلتها زيارة جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي، وأخيرا زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، هذه هي الزيارت العلنية، وربما هناك زيارات غير مُعلنة، كلها دلائل تشير إلى أن الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين ما زالت تتنفس، لكن هذه الشراكة لم تعد قادرة على إقصاء الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وبكين، التي بلغ حجم التبادل التجاري فيها أكثر من 100 مليار دولار، وتستورد بكين من الرياض 2 مليون برميل نفط يوميا، وكذلك غير قادرة على إلغاء الشراكة ين الرياض وموسكو، الحليف والشريك الاستراتيجي معها في أوبك بلاس منذ عام 2016.
أما بالنسبة للرياض فهي الأخرى ليس في جدولها شيء اسمه سياسة التخلي عن واشنطن، ومؤخرا كان هنالك تنسيق بينهما، في محاولة فرض هدنة بين الطرفين المتصارعين في السودان، واستمرار العمل المشترك هذا يعطي دليلا على أن العلاقات السعودية الأمريكية تبقى حيوية ومهمة لكليهما، لكن من الواضح أن هناك سياسة خارجية سعودية، تبدو مستقلة بشكل كبير عن تدخلات القوى الكبرى، سياسة تُركّز على خدمة البرنامج الإنمائي السعودي، وإنهاء حالات الاحتقان بين دول المنطقة، حيث شهدنا التطبيع مع تركيا، إنهاء الخلاف مع قطر، الانفتاح على دول عربية. وأخيرا الانفتاح على إيران أيضا. بالتالي كل هذا يشي بأن هنالك منحى سياسيا جديدا، واستراتيجية جديدة. ومقاربة مختلفة. السؤال الأهم هو، هل ستكون إسرائيل من ضمن هذا المنحى والمقاربة والاستراتيجية الجديدة؟ وهل تنصاع الرياض لرغبات واشنطن في هذا المجال؟
لا شك في أن إدارة بايدن واقعة تحت تأثير اللوبي الإسرائيلي القوي في الولايات المتحدة، وهذه الإدارة تعتبر التطبيع مع الكيان الصهيوني أهم مصلحة من المصالح القومية الأمريكية الأساسية، وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية بلينكن مؤخرا، أمام لجنة العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية (الإيباك). كما أن أول رد فعل لبايدن عند إعلان عودة العلاقات بين الرياض وطهران قوله، المهم المصالحة مع إسرائيل بالنسبة لي، مع ذلك السعودية ما زالت تقول إنها طرحت المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، وليس لديها بديل عنها. لكن المعلومات التي تم تسريبها تقول، إن هنالك ورقة شروط قدمتها المملكة لواشنطن مقابل التطبيع، ما يشي بأن هناك اتصالات في هذا الإطار، وأن هناك ضغوطا ومغريات للمملكة للإقدام على التطبيع. لكن حتى الان لا شيء من ذلك في الأفق.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية