عندما يخرج المكان من ذاكرة إدوارد سعيد

حجم الخط
0

تقدم إدوارد سعيد (1935-2003) بأوراق وضعها تحت عنوان «خارج المكان» لتكون مذكراته لجيل لم يعرف ما خزنته ذاكرة مفكر فلسطيني عاش معظم حياته متنقلاً بين مصر ولبنان وفلسطين والولايات المتحدة الأمريكية، كتب تفاصيل تكوينه الضبابية وسرطان اللوكيميا يلتهم تفاصيل مناعته تدريجيا، لكن بعيدا عن مرض سعيد بقيت المذكرات التي ترجمها إلى العربية (دار الآداب 2002) رفيق دربه المؤرخ والمترجم فواز طرابلسي (1941) تنقصها حلقة كتابية مهمة تنظم مسار التلقي لدى المتلقي، ألا وهي التقسيم فضلاً عن دورانه اللغوي في حقل شائك بالاسترجاعات والاستباقات، لنكون أمام محاولة جديدة لخلق إدوارد العصي على أن يكون فرد أسرة، دون الاكتراث لصورته حين خرج من اضطراب الأمكنة…

هوية الابن والإسهاب في نثر المواقف

لعل صاحب كتاب «الاستشراق» كان واضحا منذ تقديمه لكتابه، أنه سيركز على نشأته وتكوينه الأسري وتفاصيل احتكاكه بالعالم وأقانيمه، بدءا من الدين والجنس والسياسة، وبمعزل عما عكسه لنا من صورة طفل يعاني من فقر في الاستقرار النفسي، أو عجز في التموضع الاجتماعي إلا أن النص المكتوب يضعنا أمام أربع نقاط، نقطتين في الشكل من ناحية تقديم السياق، ونقطتين في الجوهر ومحاولة عكس الهوية. في الشكل أولا حاول سعيد أن يبقى متماسكًا في سياقه السردي وقد نجح دون الوقوع في شرك الذاتية حين نقل صورة ادوارد الطفل الهجين، خلال هجرة 1948، مشكلاً إنزياحا نصيا نحو سرد سيرة أبيه وكيفية تكوينه لثروته، ولعل النقطة الأساس هي كيفية زواجه بوالدته وفارق السن، ليكون بذلك قد قدم تسويغا مسبقا لكل ما سيسرده عن مشاكله مع أهله، أو مشاكل والديه في ما بينهما، لكن ما تقاسمته الفصول الأحد عشر، هو الإخفاق الذي كمن بحشد التواريخ والاسترجاع، الذي بدأ في الفصل الثالث تحديدا ليجعل الفصلين السابقين بمثابة بورتريه ناقص يغزوهما الكثير من الحركة، والكثير من الأسماء وعلى الصعيد الشكلي أيضا، يأتي التدرج من الطفولة إلى الصبا متخلخلاً، خاصة في الفصول الأخيرة حيث عاد سعيد إلى حاضره وتشخيص مرضه وظروف تكوين كتابه وجمع تفاصيله، دون أن يتوسع أو يمهد أكثر لعملية الانتقال الزمكاني، مما يخرج القارئ بردة فعل حادة بسلبيتها، خصوصا إن كان يتعطش لمعرفة المزيد عن تحول إدوارد من الطفل الضبابي إلى الأكاديمي الرصين.
على صعيد الجوهر تختلف المقاربة، فالمكان وهو الثيمة الأساس المرتبطة بالعنوان بقيت اللغز المحير لدى المتلقي في الفصول الأولى حتى بدأ سعيد في ما بعد يكشف عن نظرته للأمكنة، خصوصا ضهور الشوير القرية اللبنانية وبكفيا، إلا أن جرأة طرح الانطباع عن بكفيا مثلا، وارتباطها بالحرب ومجزرة صبر وشاتيلا، وحزب الكتائب، لم تكن مقنعة، خاصة أن الكاتب لم يلحقها بتسويغ هل تغيرت النظرة، أم بقيت كما هي؟ فضلاً عن أن استخدام الفعل الماضي لوصف هذا الانطباع ظل بطبيعته الحاضرة محيرا.
وفي ما خص الهوية أيضا كانت الصورة ضبابية، فصاحب كتاب الثقافة والإمبريالية، لم يقدم لنا إلا ذوقه الموسيقي الطفولي، المبني على ملله من حفلة أم كلثوم، التي حضرها في مصر، فضلاً عن موقفه في آخر الكتاب من صدام حسين، عبر نقد فعل القيادة الفلسطينية الداعمة له في حرب الخليج، دون أن يتقدم بتفاصيل أكثر، ما يرمي نظرية التلقي في موضع النقص والخلخلة من جهة، والتساؤل من جهة ثانية.

فواز طرابلسي يقتحم المذكرات

بدأ المؤرخ والمترجم اللبناني فواز طرابلسي تقديمه الكتاب بنقد مباشر لأساسيات عمل المترجم، التي ترتبط بمقدماته وشروحاته الطويلة حول الكتاب، معتبرا أن الكتاب يتحدث عن نفسه، وهوية المترجم تكمن في ما ينقله ويصنعه بالنص عند نقله من لغته الأم، أو لغة وسيطة إلى لغة أخرى. ولعل هذا الطرح الإشكالي جعل طرابلسي أكثر صراحة، وأكثر دفاعا عما فعله في النص، فتحول اللغة المعقدة الى لغة مباشرة لا يعني أنها تقريرية، وهذا ما يحسب لطرابلسي كونه ابتعد عن المجاز والمفردات الصعبة. وإن كان مأخذ البعض على طرابلسي هو ترجمته الحرفية أو نقله البسيط لجوهر عميق، فإن المأخذ يتحول إلى صك براءة لمترجم تعاطى مع لغة تواصلية، لا تخلو من الذكريات الخاصة بتأن، ما جعله يقتحم المذكرات ويغدو بذلك طرفا مساعدا لإيصال الأفكار.

كان لا بد لسعيد – بصرف النظر عن عدم امتلاكه رفاهية التنظيم، بسبب فتك المرض به آنذاك «ان يقسم مذكراته إلى أجزاء صغيرة، الأول يعنى بالطفولة،
والثاني بالصبا، والثالث بمرحلة الكبر كي تصبح هذه المذكرات متاحة لجميع القراء ومستقطبة لهم.. خاصة أن الإطناب والتمركز في مرحلة الطفولة والعروج العابر نحو مرحلة النضج، لم يكن في صالح سعيد لأن هذه الخطوة دفعته لذكر تفاصيل تخصه وحده وتعنيه والمقربين منه…أي نكاد نكون أمام كتاب طبع خصيصا لثلة من الناس…
الثابت أن أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، حافظ على التماسك في سرده وعبّر عن مدى قوة ذاكرته، فضلاً عن ذلك فقد دخل بقوة في تفكيك مراحل تكوين إدوارد الطفل والشاب ونجح في إقناعنا، أنه فعلاً، رغم كل الشروحات والاستفاضات بقي خارج المكان.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية