باستثناء نخبة قليلة فإن العامة من الناس لديها وعي أملس، لا تعلَق به الأفكار أو تتجذر مهما حاولنا. إن الوعي الأملس لا يتغذى أصحابه على الأفكار الكثيرة، وأهم عنصر فيه هو قابلية أصحابه للانقياد، فالناس لا يخضعون في الغالب للأفكار التفصيلية بل يُساقون نحو أهداف معينة، قد تكون حتى فاشية أو متطرفة أو عنيفة. والوعي الأملس نقيض للوعي المسنّن الخشن، الذي تعلَق به الأفكار التفصيلية، وهو وعي النخب والقادة، الذي يشبه الترس ذا الأسنان، حيث ينقل الحركة إلى الجزء الميكانيكي الملتصق به، ويجعل القوة تنتقل بدون انزلاق.
حلم الدولة الإسلامية
الناس العاديون لا يدركون من أفكار ورؤى المجموعات الإسلامية سوى تحقيق فريضة إقامة الإسلام في الحياة، مع ما في ذلك من جهاد وأجر وجزاء أخروي على نصرة الدين، أما حلم الدولة الإسلامية فيعيد لهم ذكريات الخلافة والخلفاء الجميلة.
والعدل في الإسلام بتفاصيله ومشكلاته وتحدياته بالنسبة إليهم هو عمر بن الخطاب.
وعندما تعلق الناس بالمرابطين كان يكفيهم النموذج المثالي الذي يمثله عبد الله بن ياسين دون تفاصيل كثيرة. واكتفى الناس بمهدوية ابن تومرت وخاضوا معه موجة كبرى لبناء دولة عظيمة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عن تفاصيل حقيقته كمهدي منتظر، وموقف الدين والعقل من ذلك.
وقد أدرك أغلب الذين قادوا تحولات عظيمة في التاريخ طبيعة وعي الناس واحتياجاتهم في لحظة معينة لقيادتهم نحو تغييرات كبرى.
ولا ينبغي أن نستغرب أن أكثر الكتب التي تنتشر اليوم مثل كتب التنمية الذاتية والحلول النفسية لا تخاطب أفكار الناس، بل وعيهم وشعورهم وحاجاتهم ونوازعهم.
لا يدرك الناس من الفكرة الاشتراكية سوى مشاركة الأغنياء في الثروات بالتساوي. وعندما كان الزعيم الشيوعي لينين يشرح للناس معنى الشيوعية، فقد أخبرهم أنها تعني انتشار الكهرباء في كل مناطق البلاد، وذلك ما فهموه حقا وفرحوا به، بالنظر إلى طبيعة وعيهم الأملس.
أما العلمانية فإن الكثير من الناس في المنطقة لا يفهمون معناها إلا بكونها تعادي الدين وتستثنيه من الحكم، ومن الليبرالية سوى مبدأ الحرية الذي يعشقونه، لكنهم لا ينتبهون مثلا إلى دور الليبرالية في سحق حقوقهم الاقتصادية وفق مبادئ الرأسمالية المتوحشة، والأمر نفسه ينطبق على باقي الأيديولوجيات والأفكار.
التفوق العرقي
إن زعماء النازية والفاشية مثل هتلر وموسوليني نجحوا في التعامل مع الوعي الألماني والإيطالي العام في تلك اللحظة، وقيادة الناس نحو حرب عالمية اعتمادا على شعارات بسيطة بالتفوق العرقي على باقي الأعراق الأخرى. لقد نسي الألمان في لحظة معينة تاريخهم الفلسفي الضخم، وانقادوا ضمن موجة شعبوية فارغة المحتوى الفكري نحو حروب طاحنة أبادت الملايين.
إن قادة اليابان في بدايات القرن العشرين كانوا يستثمرون نتائج عمل طويل من صياغة عقلية اليابانيين على مر العصور، بمنطق القيادة لا بمنطق الأفكار. لقد كان انتحار الطيار الياباني خضوعا لنمط من القيادة والانضباط الاجتماعي، لا تعبيرا عن أفكار يمتلكها بخصوص العدو الأمريكي الذي يحاربه. إن انتحاره كان مقدسا في نظر الجميع، ويعكس درجة عالية من فضيلة الانضباط للتقاليد. ويخبرنا تاريخ اليابان أن الياباني بدءا من الإمبراطور مرورا بطبقة المحاربين الساموراي وصولا إلى الناس العاديين، مهتمون بالانضباط الاجتماعي والسلوكي أكثر من اهتمامهم بالأفكار المجردة.
الآسيويون بالغوا في الاهتمام بالجانب السلوكي، ويتصرفون اجتماعيا وفق نمط صارم في مأكلهم ومشربهم. ومازال الياباني ينحني في التحية حتى وهو يتحدث في الهاتف المحمول، وإذا قرر الانتحار فإنه يضع نعليه جانبا بشكل مرتب ثم يقفز من الأعلى. إنهم يعيشون نمطا حضاريا كثيف الانضباط والتنظيم الاجتماعي، خفيف الأفكار المجردة.
الانضباط أم الأفكار؟
سوف يستغرب البعض من قولي إن الانضباط الاجتماعي يصنع ما لا تصنعه الأفكار. ولكن ما الذي يحتاجه الناس في المنطقة في وقتنا الحالي أو قُل في أغلب الأوقات، هل هو ملء عقولهم بالأفكار، أو بعبارة أكثر تداولا، وهي نشر الوعي، كما تحرص على ذلك كثير من المجموعات؟ أم إن الناس يحتاجون إلى قيادتهم نحو أهداف كبرى دون الخوض في التفاصيل.
وأميل إلى أن نشر الوعي مع أهميته، لا يحقق نتائج كبيرة بالنسبة لحركة المجتمعات مقارنة مع فكرة القيادة. وقد اختار العديد من الناجحين في تأسيس الدول في لحظة الصعود قيادة الناس عوض الاعتماد على تكثيف الوعي.
إن السؤال الذي طرحته يصبح مفهوما أكثر عندما ننظر إلى الفرق الهائل في أدوات ووسائل العمل بين إصرار التنظيمات على نشر الوعي، ومنهج الشركات الكبرى ومؤسسات الإعلام، التي تستثمر رغبات الناس وتوجهها لتسوقهم نحو أهداف مختلفة.
المؤسسات الكبرى المؤثرة في العالم لا تنشر الوعي ولا تبث الأفكار، لكنها فقط تقود الناس بناء على رغباتهم هم أنفسهم. إن الأهم هو اكتشاف الدوافع التي تحرك البشر في لحظة معينة، هل هي الثقافة أم الجوع، أم الحريات الفردية؟
وقد كانت فراسة القادة السياسيين والدينيين تقودهم إلى معرفة ميول الناس. وكان الناس في قبيلة مصمودة في المغرب، الخزان البشري للمهدي بن تومرت حسب المؤرخين في تلك المرحلة يرون سفك دم الأقربين أرخص من الماء، وأي أفكار تصلح لهؤلاء إلا نبوءة تنقذهم من حالهم وجهلهم الفظيع.
إن الحروب والخراب والخوف والأمل والولاءات والمصالح والمتعة والترف هي ما يقود الناس، أما الأفكار فتأتي متأخرة عن كل ذلك. والفوضى والفتن تصنع النظام لاحقا. لقد استشهد ثلاثة خلفاء لتنشأ الدولة ويُصنع النظام. والوعي الأملس البسيط أكبر تأثيرا من الأفكار في مسار تشكل الدول والحضارات.
لقد ضعف الانقياد في النصف الثاني من زمن الخلافة الراشدة، واحتاج هذا الأمر إلى تضحيات وسوء فهم كبير في التاريخ، من أجل استعادة الانضباط الاجتماعي. إن ما قام به الحجاج الثقفي سواء كرهه الناس أم أحبوه أو توقفوا في أمره، قد ساهم بشكل كبير في إعادة ترسيخ مفهوم الانقياد. وفي العراق كان يواجه فوضى الناس بالقول: إنني إذا أمرت أحدكم بالدخول من هذا الباب فدخل من غيره، فقد حل دمه. إن هذا الأمر يذكرني تماما أن الياباني كان في التاريخ إذا وقعت عيناه على عيني الإمبراطور المقدس مباشرة ولو بالخطأ، كانت خطيئة لا وسيلة لمحوها، سوى أن ينتحر صاحبها.
تبريد نوازع التحرر العنيفة
إن مواجهة ومصادمة رغبات الناس أمر صعب بالنسبة للسلطة أو حركات الإصلاح، فلدى الناس رغبات وميول كبيرة للتحرر من القيود، وهذا ما يجعل الدول ذات الطبيعة المحافظة مثل إيران تحاول “تبريد الميول التحررية” لا الاصطدام بها مباشرة بما يزيد من إصرارها وعنفوانها.
إن الاصطدام بالناس حول موضوع الإصلاح السياسي أسهل من مواجهتهم في القضايا التي تتعلق باختياراتهم الفردية ونموذج الحياة التي يرغبونها.
لقد أحسن ابن تيمية عبد الحليم في استخدام مفهوم السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، شارحا للسلطة طرق التعامل مع الناس، فإن النفوس في رأيه، لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها. وأنه: ينبغي أن يُعرف أن أولي الأمر كالسوق، ما نفق فيه جُلب إليه، هكذا قال عمر بن عبد العزيز.
إن مفهوم الراعي في الإسلام في التعامل مع الناس، أهم من فكرة نشر الوعي بينهم. ومن باب التمثيل فقط فإن حاجة القطيع من الأغنام إلى الأكل والمرعى والماء، تجعل الراعي يسوقه إلى الهدف الذي يريده هو، ولكن بناء على رغبات القطيع نفسه ونوازعه ودوافعه. إن الشركات العالمية تقود الناس إلى هدفها من الربح بناء على رغبات الناس نفسها، وهي تخاطب في ذلك وعيهم الأملس ورغباتهم لا أفكارهم. ولذلك تسوق الناس نحو اتجاهات اقتصادية كبرى.
إن الراعي لا يحاصر الأغنام بل يفتح لها الحقول والطرق والمسالك الواسعة التي يرسمها بنفسه، والجميع رابح في الانقياد. وبخلاف نموذج الحقول فإن نموذج الرعاية داخل الحظيرة فقط، فإن صاحبها يوفر فيها الموارد للقطيع، لكن القطيع سوف يشتاق إلى الحرية من جديد ويصرخ من أجلها.
كاتب مغربي