الراعي‭ ‬والرعية‭: ‬الوعي‭ ‬الأملس

باستثناء‭ ‬نخبة‭ ‬قليلة‭ ‬فإن‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لديها‭ ‬وعي‭ ‬أملس،‭ ‬لا‭ ‬تعلَق‭ ‬به‭ ‬الأفكار‭ ‬أو‭ ‬تتجذر‭ ‬مهما‭ ‬حاولنا‭. ‬إن‭ ‬الوعي‭ ‬الأملس‭ ‬لا‭ ‬يتغذى‭ ‬أصحابه‭ ‬على‭ ‬الأفكار‭ ‬الكثيرة،‭ ‬وأهم‭ ‬عنصر‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬قابلية‭ ‬أصحابه‭ ‬للانقياد،‭ ‬فالناس‭ ‬لا‭ ‬يخضعون‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬للأفكار‭ ‬التفصيلية‭ ‬بل‭ ‬يُساقون‭ ‬نحو‭ ‬أهداف‭ ‬معينة،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬حتى‭ ‬فاشية‭ ‬أو‭ ‬متطرفة‭ ‬أو‭ ‬عنيفة‭. ‬والوعي‭ ‬الأملس‭ ‬نقيض‭ ‬للوعي‭ ‬المسنّن‭ ‬الخشن،‭ ‬الذي‭ ‬تعلَق‭ ‬به‭ ‬الأفكار‭ ‬التفصيلية،‭ ‬وهو‭ ‬وعي‭ ‬النخب‭ ‬والقادة،‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬الترس‭ ‬ذا‭ ‬الأسنان،‭ ‬حيث‭ ‬ينقل‭ ‬الحركة‭ ‬إلى‭ ‬الجزء‭ ‬الميكانيكي‭ ‬الملتصق‭ ‬به،‭ ‬ويجعل‭ ‬القوة‭ ‬تنتقل‭ ‬بدون‭ ‬انزلاق‭. ‬

حلم‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬

الناس‭ ‬العاديون‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬ورؤى‭ ‬المجموعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬سوى‭ ‬تحقيق‭ ‬فريضة‭ ‬إقامة‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬جهاد‭ ‬وأجر‭ ‬وجزاء‭ ‬أخروي‭ ‬على‭ ‬نصرة‭ ‬الدين،‭ ‬أما‭ ‬حلم‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬فيعيد‭ ‬لهم‭ ‬ذكريات‭ ‬الخلافة‭ ‬والخلفاء‭ ‬الجميلة‭. ‬
والعدل‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬بتفاصيله‭ ‬ومشكلاته‭ ‬وتحدياته‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬هو‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭. ‬
وعندما‭ ‬تعلق‭ ‬الناس‭ ‬بالمرابطين‭ ‬كان‭ ‬يكفيهم‭ ‬النموذج‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬ياسين‭ ‬دون‭ ‬تفاصيل‭ ‬كثيرة‭. ‬واكتفى‭ ‬الناس‭ ‬بمهدوية‭ ‬ابن‭ ‬تومرت‭ ‬وخاضوا‭ ‬معه‭ ‬موجة‭ ‬كبرى‭ ‬لبناء‭ ‬دولة‭ ‬عظيمة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكلفوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬عناء‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬حقيقته‭ ‬كمهدي‭ ‬منتظر،‭ ‬وموقف‭ ‬الدين‭ ‬والعقل‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬
‭ ‬وقد‭ ‬أدرك‭ ‬أغلب‭ ‬الذين‭ ‬قادوا‭ ‬تحولات‭ ‬عظيمة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬طبيعة‭ ‬وعي‭ ‬الناس‭ ‬واحتياجاتهم‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬معينة‭ ‬لقيادتهم‭ ‬نحو‭ ‬تغييرات‭ ‬كبرى‭.‬
‭ ‬ولا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نستغرب‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تنتشر‭ ‬اليوم‭ ‬مثل‭ ‬كتب‭ ‬التنمية‭ ‬الذاتية‭ ‬والحلول‭ ‬النفسية‭ ‬لا‭ ‬تخاطب‭ ‬أفكار‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬وعيهم‭ ‬وشعورهم‭ ‬وحاجاتهم‭ ‬ونوازعهم‭.‬
‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الفكرة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬سوى‭ ‬مشاركة‭ ‬الأغنياء‭ ‬في‭ ‬الثروات‭ ‬بالتساوي‭. ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬الزعيم‭ ‬الشيوعي‭ ‬لينين‭ ‬يشرح‭ ‬للناس‭ ‬معنى‭ ‬الشيوعية،‭ ‬فقد‭ ‬أخبرهم‭ ‬أنها‭ ‬تعني‭ ‬انتشار‭ ‬الكهرباء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناطق‭ ‬البلاد،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬فهموه‭ ‬حقا‭ ‬وفرحوا‭ ‬به،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬وعيهم‭ ‬الأملس‭.‬
‭ ‬أما‭ ‬العلمانية‭ ‬فإن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬معناها‭ ‬إلا‭ ‬بكونها‭ ‬تعادي‭ ‬الدين‭ ‬وتستثنيه‭ ‬من‭ ‬الحكم،‭ ‬ومن‭ ‬الليبرالية‭ ‬سوى‭ ‬مبدأ‭ ‬الحرية‭ ‬الذي‭ ‬يعشقونه،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬ينتبهون‭ ‬مثلا‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬الليبرالية‭ ‬في‭ ‬سحق‭ ‬حقوقهم‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وفق‭ ‬مبادئ‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة،‭ ‬والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬باقي‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬والأفكار‭. ‬

التفوق‭ ‬العرقي

إن‭ ‬زعماء‭ ‬النازية‭ ‬والفاشية‭ ‬مثل‭ ‬هتلر‭ ‬وموسوليني‭ ‬نجحوا‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الوعي‭ ‬الألماني‭ ‬والإيطالي‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬وقيادة‭ ‬الناس‭ ‬نحو‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬اعتمادا‭ ‬على‭ ‬شعارات‭ ‬بسيطة‭ ‬بالتفوق‭ ‬العرقي‭ ‬على‭ ‬باقي‭ ‬الأعراق‭ ‬الأخرى‭. ‬لقد‭ ‬نسي‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬معينة‭ ‬تاريخهم‭ ‬الفلسفي‭ ‬الضخم،‭ ‬وانقادوا‭ ‬ضمن‭ ‬موجة‭ ‬شعبوية‭ ‬فارغة‭ ‬المحتوى‭ ‬الفكري‭ ‬نحو‭ ‬حروب‭ ‬طاحنة‭ ‬أبادت‭ ‬الملايين‭.‬
إن‭ ‬قادة‭ ‬اليابان‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كانوا‭ ‬يستثمرون‭ ‬نتائج‭ ‬عمل‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬صياغة‭ ‬عقلية‭ ‬اليابانيين‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور،‭ ‬بمنطق‭ ‬القيادة‭ ‬لا‭ ‬بمنطق‭ ‬الأفكار‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬انتحار‭ ‬الطيار‭ ‬الياباني‭ ‬خضوعا‭ ‬لنمط‭ ‬من‭ ‬القيادة‭ ‬والانضباط‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لا‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬يمتلكها‭ ‬بخصوص‭ ‬العدو‭ ‬الأمريكي‭ ‬الذي‭ ‬يحاربه‭. ‬إن‭ ‬انتحاره‭ ‬كان‭ ‬مقدسا‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الجميع،‭ ‬ويعكس‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬فضيلة‭ ‬الانضباط‭ ‬للتقاليد‭. ‬ويخبرنا‭ ‬تاريخ‭ ‬اليابان‭ ‬أن‭ ‬الياباني‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬الإمبراطور‭ ‬مرورا‭ ‬بطبقة‭ ‬المحاربين‭ ‬الساموراي‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬العاديين،‭ ‬مهتمون‭ ‬بالانضباط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسلوكي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اهتمامهم‭ ‬بالأفكار‭ ‬المجردة‭. ‬
الآسيويون‭ ‬بالغوا‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالجانب‭ ‬السلوكي،‭ ‬ويتصرفون‭ ‬اجتماعيا‭ ‬وفق‭ ‬نمط‭ ‬صارم‭ ‬في‭ ‬مأكلهم‭ ‬ومشربهم‭. ‬ومازال‭ ‬الياباني‭ ‬ينحني‭ ‬في‭ ‬التحية‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬في‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول،‭ ‬وإذا‭ ‬قرر‭ ‬الانتحار‭ ‬فإنه‭ ‬يضع‭ ‬نعليه‭ ‬جانبا‭ ‬بشكل‭ ‬مرتب‭ ‬ثم‭ ‬يقفز‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭. ‬إنهم‭ ‬يعيشون‭ ‬نمطا‭ ‬حضاريا‭ ‬كثيف‭ ‬الانضباط‭ ‬والتنظيم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬خفيف‭ ‬الأفكار‭ ‬المجردة‭. ‬

الانضباط‭ ‬أم‭ ‬الأفكار؟

سوف‭ ‬يستغرب‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬قولي‭ ‬إن‭ ‬الانضباط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬يصنع‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تصنعه‭ ‬الأفكار‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحتاجه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الحالي‭ ‬أو‭ ‬قُل‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأوقات،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬ملء‭ ‬عقولهم‭ ‬بالأفكار،‭ ‬أو‭ ‬بعبارة‭ ‬أكثر‭ ‬تداولا،‭ ‬وهي‭ ‬نشر‭ ‬الوعي،‭ ‬كما‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجموعات؟‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬قيادتهم‭ ‬نحو‭ ‬أهداف‭ ‬كبرى‭ ‬دون‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭.‬
‭ ‬وأميل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬مع‭ ‬أهميته،‭ ‬لا‭ ‬يحقق‭ ‬نتائج‭ ‬كبيرة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لحركة‭ ‬المجتمعات‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬فكرة‭ ‬القيادة‭. ‬وقد‭ ‬اختار‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الناجحين‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الصعود‭ ‬قيادة‭ ‬الناس‭ ‬عوض‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬تكثيف‭ ‬الوعي‭.‬
إن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬طرحته‭ ‬يصبح‭ ‬مفهوما‭ ‬أكثر‭ ‬عندما‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الفرق‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬أدوات‭ ‬ووسائل‭ ‬العمل‭ ‬بين‭ ‬إصرار‭ ‬التنظيمات‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الوعي،‭ ‬ومنهج‭ ‬الشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬ومؤسسات‭ ‬الإعلام،‭ ‬التي‭ ‬تستثمر‭ ‬رغبات‭ ‬الناس‭ ‬وتوجهها‭ ‬لتسوقهم‭ ‬نحو‭ ‬أهداف‭ ‬مختلفة‭.‬
المؤسسات‭ ‬الكبرى‭ ‬المؤثرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬تنشر‭ ‬الوعي‭ ‬ولا‭ ‬تبث‭ ‬الأفكار،‭ ‬لكنها‭ ‬فقط‭ ‬تقود‭ ‬الناس‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رغباتهم‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭. ‬إن‭ ‬الأهم‭ ‬هو‭ ‬اكتشاف‭ ‬الدوافع‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬معينة،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬الثقافة‭ ‬أم‭ ‬الجوع،‭ ‬أم‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية؟‭ ‬
وقد‭ ‬كانت‭ ‬فراسة‭ ‬القادة‭ ‬السياسيين‭ ‬والدينيين‭ ‬تقودهم‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬ميول‭ ‬الناس‭. ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬قبيلة‭ ‬مصمودة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬الخزان‭ ‬البشري‭ ‬للمهدي‭ ‬بن‭ ‬تومرت‭ ‬حسب‭ ‬المؤرخين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬يرون‭ ‬سفك‭ ‬دم‭ ‬الأقربين‭ ‬أرخص‭ ‬من‭ ‬الماء،‭ ‬وأي‭ ‬أفكار‭ ‬تصلح‭ ‬لهؤلاء‭ ‬إلا‭ ‬نبوءة‭ ‬تنقذهم‭ ‬من‭ ‬حالهم‭ ‬وجهلهم‭ ‬الفظيع‭. ‬
إن‭ ‬الحروب‭ ‬والخراب‭ ‬والخوف‭ ‬والأمل‭ ‬والولاءات‭ ‬والمصالح‭ ‬والمتعة‭ ‬والترف‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يقود‭ ‬الناس،‭ ‬أما‭ ‬الأفكار‭ ‬فتأتي‭ ‬متأخرة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭. ‬والفوضى‭ ‬والفتن‭ ‬تصنع‭ ‬النظام‭ ‬لاحقا‭. ‬لقد‭ ‬استشهد‭ ‬ثلاثة‭ ‬خلفاء‭ ‬لتنشأ‭ ‬الدولة‭ ‬ويُصنع‭ ‬النظام‭. ‬والوعي‭ ‬الأملس‭ ‬البسيط‭ ‬أكبر‭ ‬تأثيرا‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬تشكل‭ ‬الدول‭ ‬والحضارات‭.‬
لقد‭ ‬ضعف‭ ‬الانقياد‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬الخلافة‭ ‬الراشدة،‭ ‬واحتاج‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬تضحيات‭ ‬وسوء‭ ‬فهم‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استعادة‭ ‬الانضباط‭ ‬الاجتماعي‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الحجاج‭ ‬الثقفي‭ ‬سواء‭ ‬كرهه‭ ‬الناس‭ ‬أم‭ ‬أحبوه‭ ‬أو‭ ‬توقفوا‭ ‬في‭ ‬أمره،‭ ‬قد‭ ‬ساهم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬ترسيخ‭ ‬مفهوم‭ ‬الانقياد‭. ‬وفي‭ ‬العراق‭ ‬كان‭ ‬يواجه‭ ‬فوضى‭ ‬الناس‭ ‬بالقول‭: ‬إنني‭ ‬إذا‭ ‬أمرت‭ ‬أحدكم‭ ‬بالدخول‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬فدخل‭ ‬من‭ ‬غيره،‭ ‬فقد‭ ‬حل‭ ‬دمه‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يذكرني‭ ‬تماما‭ ‬أن‭ ‬الياباني‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬إذا‭ ‬وقعت‭ ‬عيناه‭ ‬على‭ ‬عيني‭ ‬الإمبراطور‭ ‬المقدس‭ ‬مباشرة‭ ‬ولو‭ ‬بالخطأ،‭ ‬كانت‭ ‬خطيئة‭ ‬لا‭ ‬وسيلة‭ ‬لمحوها،‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬ينتحر‭ ‬صاحبها‭. ‬

تبريد‭ ‬نوازع‭ ‬التحرر‭ ‬العنيفة

إن‭ ‬مواجهة‭ ‬ومصادمة‭ ‬رغبات‭ ‬الناس‭ ‬أمر‭ ‬صعب‭ ‬بالنسبة‭ ‬للسلطة‭ ‬أو‭ ‬حركات‭ ‬الإصلاح،‭ ‬فلدى‭ ‬الناس‭ ‬رغبات‭ ‬وميول‭ ‬كبيرة‭ ‬للتحرر‭ ‬من‭ ‬القيود،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الدول‭ ‬ذات‭ ‬الطبيعة‭ ‬المحافظة‭ ‬مثل‭ ‬إيران‭ ‬تحاول‭ “‬تبريد‭ ‬الميول‭ ‬التحررية‭” ‬لا‭ ‬الاصطدام‭ ‬بها‭ ‬مباشرة‭ ‬بما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬إصرارها‭ ‬وعنفوانها‭. ‬
إن‭ ‬الاصطدام‭ ‬بالناس‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬الإصلاح‭ ‬السياسي‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬مواجهتهم‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬باختياراتهم‭ ‬الفردية‭ ‬ونموذج‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يرغبونها‭.‬
لقد‭ ‬أحسن‭ ‬ابن‭ ‬تيمية‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬مفهوم‭ ‬السياسة‭ ‬الشرعية‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬الراعي‭ ‬والرعية،‭ ‬شارحا‭ ‬للسلطة‭ ‬طرق‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الناس،‭ ‬فإن‭ ‬النفوس‭ ‬في‭ ‬رأيه،‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬الحق‭ ‬إلا‭ ‬بما‭ ‬تستعين‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حظوظها‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬محتاجة‭ ‬إليها‭. ‬وأنه‭: ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يُعرف‭ ‬أن‭ ‬أولي‭ ‬الأمر‭ ‬كالسوق،‭ ‬ما‭ ‬نفق‭ ‬فيه‭ ‬جُلب‭ ‬إليه،‭ ‬هكذا‭ ‬قال‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭.‬
إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الراعي‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الناس،‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬بينهم‭. ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬التمثيل‭ ‬فقط‭ ‬فإن‭ ‬حاجة‭ ‬القطيع‭ ‬من‭ ‬الأغنام‭ ‬إلى‭ ‬الأكل‭ ‬والمرعى‭ ‬والماء،‭ ‬تجعل‭ ‬الراعي‭ ‬يسوقه‭ ‬إلى‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬يريده‭ ‬هو،‭ ‬ولكن‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رغبات‭ ‬القطيع‭ ‬نفسه‭ ‬ونوازعه‭ ‬ودوافعه‭. ‬إن‭ ‬الشركات‭ ‬العالمية‭ ‬تقود‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬هدفها‭ ‬من‭ ‬الربح‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬رغبات‭ ‬الناس‭ ‬نفسها،‭ ‬وهي‭ ‬تخاطب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬وعيهم‭ ‬الأملس‭ ‬ورغباتهم‭ ‬لا‭ ‬أفكارهم‭. ‬ولذلك‭ ‬تسوق‭ ‬الناس‭ ‬نحو‭ ‬اتجاهات‭ ‬اقتصادية‭ ‬كبرى‭. ‬
إن‭ ‬الراعي‭ ‬لا‭ ‬يحاصر‭ ‬الأغنام‭ ‬بل‭ ‬يفتح‭ ‬لها‭ ‬الحقول‭ ‬والطرق‭ ‬والمسالك‭ ‬الواسعة‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬بنفسه،‭ ‬والجميع‭ ‬رابح‭ ‬في‭ ‬الانقياد‭. ‬وبخلاف‭ ‬نموذج‭ ‬الحقول‭ ‬فإن‭ ‬نموذج‭ ‬الرعاية‭ ‬داخل‭ ‬الحظيرة‭ ‬فقط،‭ ‬فإن‭ ‬صاحبها‭ ‬يوفر‭ ‬فيها‭ ‬الموارد‭ ‬للقطيع،‭ ‬لكن‭ ‬القطيع‭ ‬سوف‭ ‬يشتاق‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬ويصرخ‭ ‬من‭ ‬أجلها‭.‬

كاتب‭ ‬مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية