أسطورة «الديانة الإبراهيمية» بين تعايش الأديان والمؤامرة الصهيونية

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عما أطلق عليه اسم «الديانة الإبراهيمية»، ومن المعلوم في علم الأديان المقارنة، أن هنالك العديد من الوشائج والصلات في مجموعة العقائد التي توجد في مكان واحد، على الرغم من الفترات الزمنية لوجود وانطلاق هذه العقائد. هذا هو حال ما يعرف بمنظومة الأديان اإبراهيمية وهي اليهودية والمسيحية والاسلامية ،والبعض يضيف لها الصابئية، إذ يعتقد اتباع هذه الديانات أن هنالك جذرا تاريخيا واحدا يربط بين عقائدهم التي يتبعونها اليوم، وإن ابراهيم (ع) المذكور في كتبهم المقدسة كمؤسس وأب للشرائع السماوية التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط، هو هذا الجذر الرابط بين أديان المنطقة التي انتشرت في مختلف انحاء العالم، حتى وصل أتباع الأديان اإبراهيمية الثلاثة إلى أكثر من نصف سكان العالم اليوم. وقد ظهر وشاع في الآونة الأخيرة ذكر ما يُسمَّى «الدين الإبراهيمي»، أو «الدين الإبراهيمي العالمي»، أو «الاتفاق الإبراهيمي»، أو «الدين العالمي الجديد» نسبة إلى أبي الأنبياء إبراهيم (ع)، فما حقيقة هذه الدعوة؟ وما مدى صحتها؟ وماهية تفاصيلها العقدية والسياسية؟
إن دعوات حوار الأديان وتعايشها ليست جديدة على ساحة الفعل السياسي والاجتماعي والديني، لكنها حظيت باهتمام لافت للنظر في الربع الأول من القرن الحالي، وتم التركيز على تعايش الأديان باعتباره أحد أهم المفاتيح لتحييد الفكر المتطرف، ومنع انتشار الأفكار الإرهابية، التي تهدد العيش المشترك لأتباع الديانات المختلفة وبشكل خاص في المجتمعات المختلطة.

المرفوض وغير الممكن هو فكرة التعايش مع اتباع الكيان الصهيوني الغاصب، الذي قتل وشرد شعبا واحتل أرضه وجلب ملايين البشر من شتى بقاع العالم بناء على أسطورة دينية

ومن جانب آخر هاجم فكرة تعايش الأديان عدد كبير من الكتاب والصحافيين باعتبارها فكرة ماسونية محضة، تسعى لتذويب الأديان الثلاثة في معتقد جديد هدفه السيطرة على العالم لتحركه حكومات خفية تديرها مراكز سرية، تعمل على خدمة الصهيونية، وقوى الشر المنتشرة عالميا. وقد كان تشابه الأفكار بين من يدعون إلى «المسار الإبراهيمي»، أو «العائلة الإبراهيمية» وما تدعو إليه المحافل الماسونية، مثل أفكار تقارب الأديان والعمل على تآخي البشر، ونبذ الصراعات منطلقا لربط «المؤامرة الجديدة» بالماسونية العالمية. ويستدل بعض الكتاب إلى المؤامرة بمقولات ماسونية مثل: «الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمدية، تجتمع هكذا في ميم واحد هي ميم الماسونية، وأن باء البوذية والبراهمية تجتمع أيضاً في باء هيكل الإنسان. إن الماسونية ليست عمالة لأي ديانة أو عنصرية معينة، إنها عقيدة العقائد، وفلسفة الفلسفات المزينة بالمبادئ الإنسانية». ويقولون إن هذا المسعى تصرف عليه اليوم المليارات ليصل إلى نتيجة مفادها إلغاء الكتب المقدسة، لكل دين من الأديان الإبراهيمية ، والسعي لتخلي المتدينين من الأديان الثلاثة عن طقوسهم ومعتقداتهم، واتباعهم دينيا جديدا بكتاب مقدس جديد وكهنة سيقومون بالسيطرة على عقول المؤمنين الجدد. وربما كانت هنالك بعض المعطيات السياسية التي يقرأها البعض على إنها إشارات يمكن تبويبها ضمن مسار «الديانة الإبراهيمة» الجديدة، مثال ذلك حملة التطبيع الشرسة التي قادتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عبر محاولتها فرض التطبيع مع إسرائيل على الدول العربية، ضمن صفقات سياسية وتجارية وثقافية أطلق عليها اسم (اتفاقيات إبراهام)، وكان الشخص المسؤول عن هذا الملف هو جاريد كوشنر زوج ابنة ترامب وذراعه اليمين، الذي كان عراب تطبيع العلاقات الجديدة بين إسرائيل والإمارات العربية والبحرين والمغرب والسودان. من جانب آخر، سعت أبوظبي إلى إنشاء ما عرف بمجمع الأديان في جزيرة السعديات، حيث تم إنشاء جامع وكنيسة وكنيس متجاورة في مبادرة تم إطلاقها وعرفت باسم (البيت الإبراهيمي) فهل كان معنى ذلك أن الإمارات تدشن الدين الجديد، وتضع الحجر الإساس لأول معبد إبراهيمي؟
بالتأكيد هذا الطرح غير عقلاني وغير منطقي، فاحتفاظ كل دين بخصوصيته أمر جذري في الديانات، ولا يقبل أتباع أي من الأديان المختلفة التنازل عن خصوصيته، والذوبان في كيان جديد، وإن فكرة وجود دور عبادة لأديان مختلفة في مكان واحد، أمر ليس جديدا، ولا علاقة له بأسطورة «الدين الإبراهيمي»، فمن المعروف أن هناك عددا من هذه المجمعات القديمة والحديثة في مختلف دول العالم مثل، مجمع الأديان الإبراهيمية في حي النوفرة في دمشق حيث تتصل الكنائس المسيحية بالكنيس اليهودي في باب الجامع الأموي، وكذلك الحال في القاهرة، حيث مسجد عمرو بن العاص وإلى جواره الكنيسة المعلقة وكنيس ابن عزرا اليهودي. وفي شبه جزيرة سيناء في مصر هنالك دير سانت كاترين التاريخي الشهير الذي ضمَّ منذ العهد الفاطمي، ضمن سور واحد، كنيسةً ومسجداً والجبل المقدس لدى اليهود، اما اليوم فقد تم بناء مجمعات مماثلة في قطر في حي مسيمير في الدوحة، الذي يضم مساجد وكنائس لطوائف متعددة، ومثله في السعديات في أبوظبي، حيث يضم ثلاثة دور عبادة هي مسجد «الإمام الأكبر أحمد الطيب»، وكنيسة «البابا فرنسيس»، وكنيس «موسى بن ميمون». وفي منطقة كاديكوي في إستانبول كنيس حمدة الأشكنازي، وكنيسة أرمنية، ومسجد إسلامي. ويقول مروجو نظرية المؤامرة، التي تدعي أن دينيا جديدا يتم الإعداد له في الغرف السرية المغلقة، إن الامر سيقوم على مشاركة المفاهيم والعبادات المشتركة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وحيث أن الإسلام يعترف ببعض ما جاء في اليهودية والنصرانية، وكذلك حال النصرانية مع اليهودية، بينما اليهودية لا تعترف بالإسلام ولا النصرانية فسيكون المشترك الفعلي هوما تقره اليهودية فقط، لذلك فإن هذا المشروع يهدف بامتياز إلى نشر الثقافة اليهودية ورسم المعايير والقيم والبناء عليها كمشترك إبراهيمي مزعوم.
وربما كان أحد أبرز المؤشرات التي حركت موضوع «الدين الإبراهيمي» هو إصرار بعض الشخصيات الدينية على الاهتمام بمدينة أور الأثرية في جنوب العراق باعتبارها مكان ولادة ونشأة النبي إبراهيم (ع)، ومنطلق هجرته إلى فلسطين، بل إن بعض رجال الدين المسلمين في العراق ممن شطوا في هذا المنطلق، باتوا يصرحون بأن المكان المقدس الذي بناه إبراهيم (ع) ليس الكعبة الموجودة في مكة المكرمة، كما هو معروف في الديانات الإبراهيمية، بل هو المعبد الموجود في مدينة أور، وهذا الأمر محض تكهنات وتخرصات لا أساس إثاري أو علمي له. وقد تضمنت زيارة البابا فرنسيس للعراق في مارس 2021 رحلة إلى الموقع الأثري في مدينة أور، وأشارت بعض الجهات إلى زيارة بيت إبراهيم (ع) الموجود في المدينة الأثرية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل الأبحاث الآثارية والتاريخية، لم تتضمن إشارة إلى وجود شخصية تاريخية في تاريخ العراق القديم باسم (إبرام، أو إبراهام، أو ابراهيم)، ولم يتضمن تاريخ مدينة أور المعلومات، التي ورد ذكرها في القصص الديني من تفاصيل صراع النبي إبراهيم (ع) مع سكان مدينته وحكامها. وبالنتيجة هي قصص دينية ورد ذكرها في الكتب المقدسة ويؤمن بها الناس ضمن منظمومة تدينهم فقط، وكل إشارة تربط بين النبي إبراهيم (ع) ومدينة اور هي محض لي عنق المعطيات الآثارية لتتطابق مع القصص الديني بطريقة لا أساس علمي لها. النتيجة إذا سألنا اليوم عن وجود الدين الجديد، أو «الديانة الإبراهيمية»، وعن أتباعها، ورجال الدين الذين يقودونها، بالتأكيد لن نجد شيئا، لكن هنالك دعوات للتعايش السلمي بين أتباع الديانات الإبراهيمية المختلفة، وهو أمر جيد بحد ذاته، لكنه في الوقت نفسه لا يخلو من استغلال سياسي اشتغلت عليه الدوائر الصهيونية، لفرض التطبيع على شعوب المنطقة العربية، بعد أن وقعت حكومات إسرائيل المتعاقبة معاهدات سياسية مع حكومات عربية دون أن تستطيع فرض تطبيع العلاقة مع شعوب هذه الدول، فانطلقت الجهود للعمل على فكرة التعايش الجذابة. وهنا لا بد من قول أخير وواضح؛ إن العرب من مسلمين ومسيحيين لا مشكلة لديهم مع أبناء الدين اليهودي بدلالة معيشة ابناء هذا الدين بحرية واحترام في البلدان العربية على مدى قرون. وبالتالي فإن التعايش بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة أمر ممكن وقد حصل فعلا، لكن المرفوض وغير الممكن هو فكرة التعايش مع اتباع الكيان الصهيوني الغاصب، الذي قتل وشرد شعبا واحتل أرضه وجلب ملايين البشر من شتى بقاع العالم بناء على أسطورة دينية، ويريد اليوم أن يفرض علينا تطبيعا سياسيا وثقافيا ودينيا باعتباره «تعايش أديان»، والفرق كما تعلمون كبير بين اليهودية كدين والصهيونية كفكر عنصري.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية