مبادرة باريس لتمويل التنمية المستدامة طوق نجاة جديد للدول العربية المتعثرة

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

كان آدم سميث يقول دائما إن هناك يدا خفية تقود السوق إلى وضع التوازن. وكان جون باتيست ساي يعتبر أن القانون الأساسي الذي يحكم توازن السوق هو أن «كل مستوى من العرض يخلق الطلب المقابل له في كل وقت وعند كل مقدار» أما كينز فكانت معادلة التوازن لديه تبدأ من الطلب الذي يقود العرض للارتفاع، حتى لو كانت زيادة الطلب يتم تمويلها بالعجز. وعلى العكس منه جاء ميلتون فريدمان، الذي كان يعتقد أن معادلة تكاليف الإنتاج في السوق هي معادلة مستوية تقريبا في ظروف المنافسة الكاملة، وأن العامل الوحيد الذي زعم أنه يفسدها، هو التفاوت في أجور العمل، الذي تتسبب فيه نقابات العمال، برفع الأجور من مكان لآخر حسب قوتها التفاوضية، ومن ثم فإنه كان يطالب بترك سوق العمل للمنافسة الكاملة. أما الآن فإن «اليد الخفية» التي تحقق، أو تساعد على تحقيق التوازن في السوق، قد ظهرت مكشوفة. لم تعد يدا خفية، ولا عصا سحرية، لكنها كشفت عن وجهها: «صندوق النقد الدولي».
وخلال قمة البحث عن «ميثاق مالي عالمي جديد» التي دعا لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (22- 23 حزيران/يونيو) لم يكن أمام القادة السياسيين، ومديري البنوك المركزية، وخبراء الاقتصاد، إلا أن يعترفوا بأن أقصر طريق لتحقيق التوازن في العالم هو استخدام أهم آلية يستخدمها صندوق النقد الدولي لتوفير المزيد من السيولة لحكومات دول العالم، الصناعية المتقدمة، والنامية، والفقيرة، من أجل مواجهة التحدي الكبير الذي يهدد الاقتصاد العالمي حاليا، وهو التحدي الناتج عن استمرار تأثير تداعيات أزمة كورونا، وحرب أوكرانيا، والركود والتضخم وانتشار الفقر، إضافة إلى تحديات بيئية قاسية.
لكن الغريب في اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لزيادة مستوى السيولة المالية في العالم للمرة الثانية في ثلاث سنوات، هو أن الزيادة الضخمة في السيولة العالمية بعد الإصدار الأخير في عام 2021 ما يعادل 650 مليار دولار من العملة الحسابية لصندوق النقد الدولي (حقوق السحب الخاصة – SDR) وتوزيع قيمة الإصدار على الدول الأعضاء، بما يعادل حصتها في رأسمال الصندوق، وليس حسب احتياجها، كان سببا في حدوث خلل كبير في هيكل السيولة العالمية. ذلك أن التوزيع النسبي المتكافئ مع حصة كل دولة في رأس المال، جعل دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة تحصل على ما يعادل 35 مليار دولار، في حين حصل لبنان، الدولة المتعثرة في سداد ديونها على 865 مليون دولار!
هذا الخلل في هيكل السيولة، أسهم عمليا في زيادة قسوة معدل التضخم، بارتفاعه إلى أعلى مستوى في العقود الأربعة الأخيرة، وزيادة قدرته على مقاومة وسائل مكافحته التقليدية، مثل رفع أسعار الفائدة، وزيادة حدة التفاوت، والفشل في دفع معدلات التنمية. كما ترافق ذلك مع اشتداد حدة أزمة الديون في الدول النامية والفقيرة، وتآكل أرصدة احتياطي النقد الأجنبي في بنوكها المركزية. وكانت الدول الفقيرة والنامية، طبقا للمؤشرات المتاحة، ضحية لسياسات التشدد النقدي، التي لجأ إليها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بعد قرار إصدار حقوق السحب الخاصة بحوالي 6 أشهر. هذه النتائج كانت على عكس المستهدف من زيادة السيولة.
وقد بلغت حصة الشرق الأوسط من مخصصات حقوق السحب الخاصة عام 2021 ما يعادل حوالي 47 مليار دولار، أي بنسبة 7.2 في المئة من قيمة الإصدار الكلي (650 مليار دولار تقريبا). لكن توزيع الإصدار طبقا لحصة كل دولة في رأس مال الصندوق أدى فعليا إلى تكريس عوامل التفاوت والانقسام بين الدول الغنية التي تتمتع بفوائض مالية ضخمة، والدول غير النفطية التي تعاني من العجز، وإلى تآكل احتياطي النقد الأجنبي في دول مثل مصر وتونس. هذا التفاوت الحاد في النتائج ليس خطيئة الدول النفطية أصحاب الفوائض، لكنه خطيئة السياسات الاقتصادية، وهيكل ترتيب الأولويات في دول العجز، وهي الخطيئة التي فشل صندوق النقد الدولي في معالجتها.

أهداف الإصدار المقترح

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من جائحة كورونا إلى حرب أوكرانيا، مرورا بأزمات الركود والتضخم واتساع نطاق ديون الحكومات، سقط أكثر من 120 مليون شخص إلى هاوية الفقر المدقع، النسبة الأعظم منهم في أفريقيا وجنوب آسيا، ومنها السودان واليمن. كذلك فإن العالم كله ما يزال بعيدا عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي حددتها الأمم المتحدة. الأخطر في الوقت الحاضر هو أن دول العالم، المتقدمة والنامية والفقيرة على السواء تواجه تحديين في وقت واحد، الأول هو تحدي الانتقال إلى عصر الطاقة الجديدة، لتقليل التهديدات البيئية والتقلبات المناخية الحادة، ذات الآثار الاقتصادية بعيدة المدى، خصوصا على المياه وإنتاج الغذاء. والتحدي الثاني هو أن احتواء خطر الديون، الذي أصبح يهدد عددا متزايدا من الدول النامية والفقيرة في العالم بالفشل، وهو ما يمثل تهديدا للاستقرار العالمي، وللعلاقات بين الشمال والجنوب، خصوصا مع تزايد تدفقات الهجرة غير القانونية، عبر عدد من الممرات، أهمها الممر البحري عبر البحر المتوسط، والممر البري عبر تركيا ودول البلقان.

مبادرة التمويل للتنمية المستدامة

يلعب صندوق النقد الدولي دورا رئيسيا في مبادرة التمويل للتنمية المستدامة، وذلك من خلال إصدار حقوق سحب خاصة جديدة بقيمة تصل إلى 2 تريليون دولار، أي ما يزيد عن ثلاثة أمثال الإصدار السابق في اب/أغسطس 2021. وقد اقترحت رئيسة وزراء باربيدوس ميا موتلي أن يتم توزيع قيمة الإصدار الجديد من حقوق السحب الخاصة «SDR» على دفعات يعادل كل منها 500 مليار دولار سنويا. هذا يعني تمكين حكومات الدول المستفيدة، من إعادة إصدار نصيبها داخليا بالعملة المحلية في مواعيد محددة، وهو ما يساعد على خلق حالة من اليقين في السوق، لتحقيق الهدفين الكبيرين: التنمية لتخفيض الفقر، و«الانتقال الطاقوي» لتحقيق هدف الحياد الكربوني. وتجدر الإشارة إلى إن من الضروري أن تحصل الدول الفقيرة والنامية على مخصصات أكبر من حقوق السحب الخاصة، بما يكفي لتمويل احتياجاتها.
ولاشك في أن الدول العربية الفقيرة مثل اليمن والسودان والصومال وجزر القمر، أو المتعثرة ماليا، مثل لبنان وتونس، وكذلك التي تعاني من صعوبات في توفير السيولة الأجنبية مثل مصر، سوف تحصل على مزايا كبيرة من الإصدار الجديد لصندوق النقد الدولي في حال إقراره. وسوف تكون هذه السيولة حافزا لزيادة الإنفاق الاستثماري والاجتماعي، بتكلفة هامشية جدا، بشرط الالتزام بمعايير الإنفاق التي سيضعها الصندوق.
ومن المتوقع أن تكون هذه المبادرة طوق نجاة جديد تحصل عليه هذه الدول، وفرصة استثنائية لإعادة الثقة في سياستها الاقتصادية. وكانت 7 دول في المنطقة قد استعانت بـ»حقوق السحب الخاصة» التي حصلت عليها عام 2021 في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها. وقد استهلكت 5 دول كل مخصصاتها تقريباً. من هذه الدول كانت مصر التي استخدمت الجزء الأكبر من المخصصات لتسديد بعض ديونها، إذ وصل دينها المستحق للصندوق إلى 17.7 مليار دولار قبل القرض الأخير في كانون الأول/ديسمبر الماضي، الذي حصلت منه الحكومة على شريحة واحدة فقط، ثم تعثرت في الوفاء بالشروط المحددة لإجراء مراجعة السابقة للشريحة الثانية. وكان سداد الديون بشكل عام كليا أو جزئيا، هو المجال الرئيسي الذي استخدمت فيه السيولة الجديدة.

ضرورة تجنب المخاطر

ومع وجود اتفاق عام على إتاحة سيولة جديدة لتعزيز فرص الاستثمار من أجل تحقيق أهداف اقتصادية- اجتماعية- بيئية، فإن عددا من علماء الاقتصاد والسياسيين أثار المخاوف من تكرار التداعيات السلبية التي رافقت الإصدار السابق. وقدم هؤلاء بعض الاقتراحات للقضاء على المخاوف المحتملة. وقال عالم الاقتصاد باري أيخينغرين، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا، في مداخلة نشرها موقع «بروجيكت سينديكيت» إن الشيطان يكمن في تفاصيل هذه الاقتراحات، وليس في صيغتها العامة. وأوضح أن أخطر ما ينطوي عليه الاقتراح هو إصدار السيولة الجديدة بالدولار، وهو ما قد يزيد الأمر تعقيدا.
كما أثارت بريجيت غرانفيل الأستاذة في جامعة «كوين ماري» في لندن اقتراحا لإعادة النظر في العملة الفعلية المستخدمة في الإصدار، لإيجاد قدر من التوازن بين السيولة الجديدة، وبين حقائق السوق، التي تذهب لتقليل الاعتماد على الدولار في الاحتياطي النقدي العالمي، وإمكانية البدء في استخدام العملات الرقمية ضمن هيكل الاحتياطي النقدي الدولي، بعد وضع نظام صارم لقواعد إصدارها والتعامل بها. كما تضمن الاقتراح ضرورة العمل على إصلاح مؤسسات اتفاقية «بريتون وودز» بمشاركة قيادات هذه المؤسسات.
وعلى منصات الحديث في القمة، شارك مسؤولون في تقديم اقتراحات مبتكرة، منها ما عرضته وزيرة البيئة البرازيلية جينيفر موريس، في شأن استخدام ما أطلقت عليه «مبادلة الديون بالمحافظة على الطبيعة» بمعنى أن يتم إقراض الدول النامية والفقيرة، التي تواجه خطر تآكل وانهيار منظومتها البيئية الطبيعية مثل الغابات، والتي تعاني من التصحر، وأن يكون مقابل سداد هذه القروض هو تنفيذ إصلاحات طبيعية أو بيئية، من أبسطها التوقف عن قطع أشجار الغابات، ووضع برامج فعالة لمقاومة التصحر، وهي صيغة يمكن اختصارها في مبادلة «الديون مقابل الكربون».
ومن ثم فإن قمة «ميثاق التمويل العالمي الجديد» في باريس قد تكون ردا على فشل العالم، حتى الآن، في الوفاء باحتياجات تمويل اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 وذلك بتقديم فرص جديدة لتمويل احتياجات التنمية والحد من الفقر والتفاوت في العالم من خلال مبادرة «تحالف التمويل من أجل التنمية المستدامة» المتوقع إطلاقها في شهر أيلول/سبتمبر المقبل. وربما يتعين على دولة الإمارات أن تلتقط الخيط من باريس، حتى يتضمن مؤتمر cop28 الذي يبدأ في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل إطار ماليا عمليا، أو ملامح واضحة لتمويل برامج تحقيق أهداف التنمية المستدامة والحياد الكربوني على مستوى العالم ككل. إن اتفاقية باريس للمناخ، وأهداف التنمية المستدامة، وتحقيق قدر أكبر من التوازن في العالم، تصبح جميعا مجرد شعارات فارغة ما لم يتوفر التمويل الملائم لتحقيقها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية