نمت شعبية المدوّنات الصوتية على مدار السنوات القليلة الماضية، ولديها بالتأكيد إمكانات واعدة في المستقبل. الذين وجدوا في البودكاست سهولة في الوصول للمستمعين، وجدوا أيضا جمهورا متعطشا لتنوع المحتوى مع سهولة الاستماع إليه حيثما يوجدون، في البيت، في السيارة، في القطار، أو أثناء القيام بنشاطات عديدة.
خرج البودكاست من الفضاء الحر الذي لا يفرض عليك أصواتا معينة وموضوعات مبرمجة سابقة، وهو بذلك أنهى عهد الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام الصوتي، كما أنهى التوظيف العشوائي في الإذاعات لأصوات تفتقر للكفاءة، كون البودكاست السيئ عمره قصير. لا قيود ولا وسائط تقليدية، فصاحب المدوّنة الصوتية لا يحتاج سوى لعتاد بسيط متمثل في هاتفه الذكي، لإطلاق منصة لإبداعه بحرية كاملة، ويا لسهولة الأمر لإيجاد جمهور متفاعل، رغم طول مدته الزمنية التي قد تصل لثلاث ساعات. هل يكمن السّر في المحتوى؟ أم في بساطة التعاطي مع القضايا المطروحة؟ أم في أشياء أخرى كانت غائبة عن وسائل الإعلام الكلاسيكية؟
قبل الوقوف عند هذه النقطة وتحليلها وتفكيك مكوناتها، يؤكّد «البودكاسترز» أنهم تمكنوا من توفير فرص لتحقيق دخل لهم من خلال نماذج الأعمال المقدمة، بجذب المعلنين أولا، والاشتراكات المدفوعة، وتبرعات المستمعين وشركات العلامات التجارية. وهذا ما يسمح لهم بتحقيق إيرادات واستثمار المزيد في جودة المحتوى والإنتاج. ربّما يحمل المستقبل تغييرات غير متوقعة، فالمنصات تتطور باستمرار، وشعبية البودكاست اليوم لا تعني اليقين بثبات مكانته على المدى الطويل في المشهد الإعلامي، لكن المؤكّد أن استهلاك المحتوى الصوتي يزداد رواجا وجاذبية، على سبيل المثال تزايد إنتاج الكتاب المسموع، الذي يشهد نموا كبيرا في إمكانه أن يلعب دورا حيويا في مستقبل استهلاك المحتوى الأدبي. كل من يعاني من صعوبة في القراءة أو تحديّات في الرؤية، يمكنه الاستمتاع بالكتب الصوتية، دون الحاجة لقارئ. كما يمكن للمشغولين أداء مهامهم – مثل القيادة، أو ممارسة الرياضة، أو الاسترخاء – وهم يصغون لقراءة كتبهم المختارة. طبعا يمكن لأصوات الرواة إضفاء الحيوية على الشخصيات والحوار، ما يضيف بعدا إضافيا للقصة. وهنا يجب الإشارة إلى الأبواب التي ستفتح أمام المواهب الصوتية تماما، مثلما ستفتح أمام هواة كتابة القصص. قد لا يحتاج هؤلاء إلى لغة عربية سليمة، لأن أفق ولادة أدب اللغات المحكية في العالم العربي وارد جدا، بما أنّه نجح في العالم الغربي، وقد قيل لي إنه بدأ ينتشر في تونس محققا نجاحا، ولست متأكدة من صحة هذه المعلومة، كوني تابعت فقط بعضا مما تكتبه الكاتبة التونسية فاتن الفازع، ووجدت أنّها الأكثر مقروئية مقارنة مع غيرها من الكُتّاب.
على هذا الأساس فإن تنوع المحتوى يجعل توزيع الكتب الصوتية عبر الإنترنت وتطبيقات الأجهزة المحمولة سهلا، لأن الإقبال عليها سيكون أكثر بكثير مما كانت عليه الكتب الورقية والإلكترونية. وكما في الغرب أتوقع أن يقبل الناشر العربي على الاستثمار في الصوتيات أيضا، وأعتقد أن البداية مُبشَّرة بالخير، شخصيا أسمع في السيارة أغلب الكتب التي لا أجد وقتا لقراءتها بسبب انشغالاتي، لكني أحيانا لا أتحمّس لأُتمّ الكتاب لأن صوت القارئ غير مناسب لذائقتي. وهنا يبدو الفرق الشاسع بين الكتب المسموعة باللغات الأجنبية وكتبنا العربية. فاختيار الأصوات لا بد أن يقوم على اختبار دقيق للمواهب، وما أكثرها لجعل المستمع يعيش لذّة الإصغاء للحكاية المروية. من يعرف مثلا أن الممثل الشهير مورغان فريمان بفضل صوته العميق المعبِّر، يعتبر واحدا من أكثر رواة القصص شهرةً في الأفلام والكتب الصوتية. كما قدّمت النجمة الهوليوودية كيت وينسلت صوتها للعديد من الكتب الصوتية، وهي مشهورة جدا بمهاراتها في سرد القصص وقدرتها على نقل البهجة والدفء والحزن والدهشة عبر صوتها. الممثلة البريطانية جولييت ستيفنسون الحائزة جوائز مهمة في المسرح والسينما، تمّت الإشادة بها لقدرتها على إحياء الشخصيات بالعواطف والفروق الدقيقة عبر مجموعة من الأنواع الأدبية التي قدّمتها بصوتها. عُرِف أيضا جيم دايل بسرده للإصدارات الصوتية لسلسلة «هاري بوتر» وقد زكّته الكاتبة ج. ك. رولينغ. دايل كوميدي من مواليد 1935 وتعامل مع الجمهور في عروض الستاند آب لمدة طويلة. الرّاوي الآخر المعروف لكتب «هاري بوتر» الصوتية هو ستيفن فراي مقدِّم البرامج العبقري متعدّد المواهب، روى القصة بصوت دافئ جميل حقق نجاحا كبيرا.
نحن أيضا لدينا مواهب صوتية عرفناها أكثر عبر الأفلام الوثائقية، ومسلسلات الكرتون القديمة، وبرامج تلفزيونية إخبارية عموما، لكن الكتاب المسموع لم يستفد من هذه الطّاقات، ولا من طاقات مشابهة، ربّما لأن المستثمرين في قطاع الكتاب المسموع عندنا يحتاجون لتجارب أكثر يتعلمون منها، قبل اقتناعهم أن الأصوات الجيدة هي التي تُنجِح الكتاب المسموع وليس المحتوى الجيد للقصة وحده.
بالتأكيد لا يمكن للكتاب الصوتي أن يحلّ محلّ الكتاب الورقي، لكنّه يوفِّر تجربة مكمِّلة لمشروع القراءة، وطريقة جديدة لاستهلاك الأدب بأنواعه. وقد يستمرُّ توزيع الكتب المسموعة في النمو بناء على تفضيلات «المستهلك التكنولوجي» وفتح أبواب أخرى لتسهيل توزيع الكتاب الورقي، وهذا نوع من تعايش الاستثمارات المستقبلية بين «الكتب ومشتقاتها» لكن دعونا نتفق على أن ما ينجح في الغرب قد لا ينجح عندنا لأسباب كثيرة منها، التّردُّد في دفع المستحقات المادية للكتّاب والرواة، وعدم تحقيق مردود مادي من النصوص المسموعة، بحكم أن المستمع العربي متعوّد على «الأدب المجاني» سواء كان على شكل pdf أو مسموعا.
في إحدى المقابلات التلفزيونية العائدة لسنة 2020، يتحدّث أحد الناشرين العرب عن مستقبل واعد للكتاب الصوتي، لكن ببحث صغير على غوغل تبين لي أن الناشر نفسه أغلق أبواب دار النشر خاصته، وقد انتهت مغامرته كما بدأت، وانتهت مشاريع مشابهة كثيرة في العالم العربي، وأعتقد أن السبب يعود إلى ذلك الاندفاع غير المدروس للمغامرة، فالقراءة تتطلّب شروطا يجب احترامها قبل تقديمها للمستمع الهاوي للأدب، منها الالتزام بقواعد التّحريك، ثم التفاعل مع النصوص عاطفيا لتقديم أداء ناجح لها، وقبل كل هذا يجب الذهاب إليها كشغف، لا كوظيفة مثل أي وظيفة تؤدّى مجرّدة من المشاعر. هل هذا يعني أن تجربة الكتاب المسموع فشلت؟ بالطبع لا، فلكل أمر أوانه، فها هي فكرة البودكاست تصحِّح بعض المفاهيم الخاطئة التي وقع فيها صنّاع الكتاب، كون برامج البودكاست الصوتية في أغلبها عبارة عن قصص تمتدُّ على مدى ساعات لا يملُّ منها السامع، وهذا في حدِّ ذاته يطرح فكرة تغيير الطرق التي قُدِّمت بها الكتب المسموعة سابقا.
صحيح أن بعض الأصوات الفخمة قدّمت كتبا صوتية مثل صوت الممثل اللبناني الكبير عبد المجيد مجذوب، لكن محتوى تلك الكتب كان دسما أكثر ممّا يتحملُه المستمع أو القارئ العربي، فالذهاب لأمهات التاريخ وبعض الكتب التراثية لن يفتح شهية ابن القرن الواحد والعشرين، وبالنسبة لي هذا النوع لا يذهب إليه إلاّ باحثٌ يحتاج المراجع بشكل ورقي أكثر منها مسموعا. حول هذا الموضوع بالذات صادف أن حضرت إحدى الندوات التي ناقشت مستقبل الكتب الصوتية عبر التطبيقات والمنصّات الرقمية، التي أكّد فيها أحد المعلّقين الصوتيين البارزين إن كتب التنمية البشرية تأتي في المرتبة الأولى حسب الإقبال عليها صوتيا، تليها كتب الأعمال.
يستمتع الناس بنسب متفاوتة بالكتب الأكثر مبيعا، مثل الروايات المثيرة، والسير الذاتية والمذكرات لشخصيات مشهورة، مثل الرياضيين والفنانين ورجال السياسة، ورجال الأعمال الناجحين. ويصغون بتركيز عالٍ للكتب التي تقدم نصائح للنجاح، وتقنيات تنمية الشخصية، وفهم الذات، وتخطي الأزمات، مثل كتب علم النّفس، والصحة.
المتعطشون للمعرفة كثيرون، ويبدو أن الكتاب السموع براغماتي أكثر بالنسبة للسرعة التي تمضي بها الحياة اليوم. أمّا جمهور الكتب الصوتية الأول فهم الأطفال، والناشئة، وثمّة سرٌّ في ذلك ربما، فالأصوات الرّاوية للقصص والحكايات تعوّض الأهل الذين كانوا يقومون بهذا الدّور، ولا أحد في إمكانه نفي هذه الحقيقة، فكلنا عشنا شغفنا الفطري لسماع القصص من أحد أفراد العائلة، خاصة الجد أو الجدّة، وأجزم أن هذه هي بذرة نجاح الكتب المسموعة التي يجب التركيز عليها لرعاية قرّاء سيعشقون الكتب بكل أشكالها في ظرف عشر سنوات فقط أو أقلّ.
شاعرة وإعلامية من البحرين