التنمر على اللغة!

ذهبت سيدة عربية متخصصة باللغة العربية، في فيديو، نشرته على حسابها، في تويتر، إلى إدراج التصويب اللغوي في (التنمر) وانتهت إلى دعوة المخطئين في اللغة إلى الامتناع عن قبول التصويب؛ بوصفه تنمرا لغويا يُمارَس عليهم.
هكذا دون أي تسويغٍ مقبول لهذا الحُكْم المتعسف، المخالف لما استقر، علميا، منذ زمن، ولما هو المتوقع؛ أنْ يُصار إلى تصويب الخطأ؛ حتى لا ينتشر ويُستساغ، ويشغل مكان الصواب في الاستخدام، ذلك بحجة تحبيب اللغة العربية للجميع، وأن اللغة العربية حق للجميع، وبالطبع ما ترمي إليه تلك الدعوة؛ من ترك التصويب اللغوي، لو استجيب لها، لن يكون تحبيبا للغة العربية؛ لأن اللغة ستكون قد ضُيعت، وفقدت معالمها، ونظامها الذي يحفظها، ويحقق وجودَها.
أما أن العربية حق للجميع، فهذا صحيح، لكن هي كذلك، وهي فوق الجميع، أي هي حاكمة على كلام الجميع، بالالتزام بها، وليست حقا لهم؛ بأن يعبثوا بها، أو بأن يتجنوْا عليها، وبأن تكون وَفْق أمزجتهم، فهذا يذهب بفلسفة اللغة، وبوظيفتها، إذ أي لغةٍ إنما تقوم على التواضع والاتفاق الضمني، على التخاطُب بها وفهمها، وَفْق ما استقر من أحكامها، ومن دلالات معهودة لمفرداتها، عند مُنشِئ الخطاب، وعند مُتلقيه، ومع أن اللغة كائنٌ حي يتطور، لكن لتطوره أيضا أحكاما ومحددات، فمع أن اللغة كائن حي، إلا أنها أيضا شأن جماعي اجتماعي، وإلا فما سبب إخفاق الدعوات إلى اللهجات العامية، أو الدارجة؟! وما سر هذا الإيثار المستمر للغة الفصيحة؛ في النتاج الأدبي، للمبدعين العرب؛ من روائيين، وشعراء، وكتاب، بصفة عامة؟ بالطبع، كان في إمكان أستاذة اللغة العربية أن تُبقي على النزاهة في الرأي، وأنْ لا تُجحِف باللغة؛ لصالح فلان، أو علان، أو لصالح الجاهلين في اللغة ونظامها، بأنْ تطلب الرفق في التصويب، دون تعنيف أو تجريح، إنما برسم الخط الصحيح، إلى جانب الخط الأعوج، أو الخطوط العُوج، وبأن تطالب الجاهلين باللغة بتعلمها، وتحري الصواب فيها. على أن هذا التوسيع الغريب لمفهوم التنمر؛ ليشمل كل مَن يصوب رأيا، أو فعلا، لغيره، بالغ الضرر والاستهجان؛ ولاسيما في الشؤون العلمية؛ إذ كثير من اشتغالات العلماء، وأهل الاختصاص، يعتريها الاختلاف؛ ويحاول كل فريق منهم إثبات الأفضلية والصواب في رأيه، بالمقارنة مع رأي غيره، أما نشر مثل هذه الآراء المتجادلة، أو المصوبة، على الملأ، فهو أيضا مقبول، وقد يكون ضروريا؛ من أجل تعميم ما يَعتقد صاحبُه أنه الأصوب، والأحرى بالاتباع، والأخذ، كل ذلك بلغة علمية، بعيدة عن التحاملات الذاتية، والنزعات الكيدية. والموضوع في أصله موضوع علم ونظام، فما دخل تحت مسمى العلم، موضوعي معياري، إلا أن يكون في المجال الإبداعي الإنساني، حيث لا معيار صارم للحُكْم بتميزه، وفرادته، كما هو الشأن في مسائل العلم، عادة. صحيحٌ أن كل علمٍ يتسع لمسائل اختلافية جدلية، (ومن أخذ بأحدها، عن علم، وتتبع، لا يعد مجانبا للصواب) لكن ثمة أيضا أساسيات ثابتة، ومتفق عليها.
والظاهرة اللغوية، بصفة عامة، تقوم على ثنائية اللغة والكلام، كما أصل ذلك، عالم اللسانيات، ومؤسس علم اللغة الحديث، فرديناند دي سوسور، في كتابه ‹‹منهج في اللغويات العامة» حين فرق بين اللغة (Langue) التي تشمل القواعد والأعراف المجردة والمنهجية لنظام الدلالة، فهي مستقلة عن المستخدِمين الفرديين، وهي موجودة مسبقا. وهي تنطوي على مبادئ اللغة، والتي دونها لن يكون هناك أي معنى للكلمة.
أما ‹‹الكلام» فيشير إلى الحالات الملموسة لاستخدام اللغة، هذه هي الظاهرة الفردية والشخصية للغة، باعتبارها سلسلة من الخطابات التي يدلي بها موضوع لغوي. وقدّم سوسور الشطرنج كمثالٍ توضيحي لشرح مفهوم اللغة والكلام، وقارن بين اللغة وقواعد لعبة الشطرنج – قواعد لعب اللعبة – وقارن التحركات التي يختار الفرد اتخاذها – تفضيلات الفرد في لعب اللعبة – بالكلام. فاللغة هي المشتركة بأنظمتها الحاكمة، والكلام هو استخدام اللغة، وفق التنوعات الفردية، الأسلوبية، لمستخدميها، محكومةً بتلك الضوابط، فاللغة بذلك لا تلغي الفرد، وخياراته، مع حفاظها على معنى اجتماعيتها، ووظيفتها الجمعية، وعلى ذلك، فكل خطاب يريد أن يكون عربيا لا بد له من الاحتكام إلى نظام اللغة العربية الداخلي؛ مِن صرف ونحو ودلالة، وحتى الكتاب الإلهي؛ القرآن الكريم، وقد نزل بلغة العرب، سار على معهود كلامهم، حتى يُفْهَم، ويُعْقَل، وما كان يند عن هذا النظام، إلا جاهل باللغة، أو مكابر، كما يروى عن الشاعر الفرزدق، وهو الأموي، الذي عاش في صدر العصر اللغوي، قبل فساد اللسان، حين كان يضيق بتصويبات، كما في قصة بيته:
«وعَض زمانٍ، يا ابنَ مروانَ لم يدَعْ/ من المالِ إلا مُسْحَتًا أو مُجَلفُ»
فحين سأله النحوي، عبد الله بن أبي إِسْحَاق: بِمَ رفعتَ «مجلفُ»؟ أجابه الفرزدق: بِمَا يسوءك وينوءك. علينا أَن نقُول، وَعَلَيْكُم أَن تتأولوا».
فالشاعر، هنا، احتمى بسلطة الشعر، كما قد يحتمي غيرُه بالسلطة السياسية، كما حصل في قصة سيبويه والكسائي، في المسألة المشهورة بالزنبورية، حين جرى تغليب رأي الكسائي؛ لأنه مؤدب ابن الخليفة، حسب بعض الروايات، ونظرة مقارنة إلى الشعوب الأخرى، وتقديرها للغتها، بوصفها مكونا مهما من مكونات الهوية، تكشف محاسبة لا هوادة فيها، ولا تسامُح، حتى لو صدرت تلك الهفوات، أو الجهالات في لغتهم، من سياسيين كبار، ولعل التبعات حينها تكون عليهم أكبر؛ لأن المسؤول يمثل قيمة رمزية للأمة. فقد عملت فرنسا على صيانة لغتها، عبر تشريعات قانونية، كما يظهره قانون توبون؛ نسبةً إلى وزير الثقافة جاك توبون، هو قانون سنته الجمهورية الفرنسية، في 4 أغسطس/آب 1994، يهدف إلى حماية اللغة الفرنسية وتراثها، ويتركز على ثلاثة أهداف رئيسية هي: إثراء اللغة؛ والالتزام باستخدام اللغة الفرنسية؛ والدفاع عن الفرنسية؛ اللغة الرسمية للجمهورية. وكذلك، شددت دولٌ عربية، كما قطر، في قوانين تفصيلية تلزم باستخدام اللغة العربية، ناظمةً التعاملات الحكومية الرسمية، والشؤون العلمية والتعليمية والنشاطات التجارية، والترفيهية، وغيرها.
والسؤال: على مَن يقع التنمر والإجحاف، حين يُشرعَن التهاون في الأغلاط اللغوية؛ بذريعة موهومة، وهي إيذاء مشاعر المخطئ، أيقع على المخطئ في لغته، أم على اللغة نفسها؟

كاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية