جيل الجدال (والقتال) بغير علم  

من أهم ما ينبه إليه الصحافي البريطاني مهدي حسن، في مجلة «نيوستايتسمن» اليسارية البريطانية، أن «أبعث إنجازات داعش على الدهشة قد لا يكون اتساع رقعة الأراضي التي استولت عليها وإنما توحيدها للمسلمين المتفرقين في أنحاء العالم (والمنقسمين في أغلب الأحوال)» ضدها وضد ما تقترفه باسم الإسلام.
ولكن رغم اتفاق عامة المسلمين وجميع علماء الدين على أن داعش «لا تناقض الإسلام فحسب، بل إنها تناهضه وتعمل جاهدة ضده»، فإن الرأي المنتشر لدى الجمهور الغربي هو أن كل هذه الفظاعة ما كانت لتظهر لو لم يكن في تعاليم الإسلام ما يسوغها أو يتيح إمكانا للاعتقاد بمشروعيتها. على أن هذا الرأي لا يصدر بالضرورة عن تحيز ضد الإسلام. ذلك أن الموقف الغالب لدى الجمهور الغربي منذ عقود هو القول بأن العنف متأصل في جميع الديانات الكبرى دون استثناء، بالنظر إلى أن كلا منها يزعم أنه الدين الحق.
وقد أبلى مهدي حسن بلاء حسنا في مسعاه الصحافي الرصين لتبيان انعدام أي علاقة بين الإسلام وبين داعش التي يرى الأستاذ في جامعة كمبردج عبد الحكيم مراد (تيموثي ونتر سابقا) أنها تنظيم «مدين بأفكاره لليمين الأوروبي المتطرف» وأن لديه «نزعة استبدادية تبدو أقرب إلى الفاشية الأوروبية منها إلى أصول الإسلام». بل إن عبد الحكيم مراد يذكّر بأن الديانات التوحيدية تعج بجماعات انشقاقية تزعم أنها الفرقة الناجية، ولكن قبول هذه المزاعم على علاتها ليس إلا من قبيل «السذاجة أو الإغراض (..) إذ مثلما لم يكن أعضاء ميليشيات رادوفان كارادجيتش المواظبون على الصلاة في الكنائس يمثلون المسيحية حق التمثيل في البوسنة قبل عشرين سنة، ومثلما لا يمثل المستوطنون الذين يحرقون المساجد في الضفة الغربية الديانة اليهودية حق التمثيل، كذلك لا تمثل داعش الإسلام». كما يستشهد مهدي حسن بخبيرة استطلاعات الرأي داليا مجاهد التي تقول: «ليس صحيحا أن القراءة العنيفة (التي يمارسها التكفيريون) للقرآن تفضي إلى العنف السياسي. بل إن العنف السياسي هو الذي يفضي إلى قراءة عنيفة للقرآن».
ولكن رسائل القراء في عدد الأسبوع الماضي من «نيوستايتسمن» تظهر عدم اقتناع بأن الإسلام براء مما يرتكب باسمه! هذا إضافة إلى أن المجلة نشرت مقالا بقلم المؤرخ توم هولاند يرد فيه على مهدي حسن بأن «تأويل داعش للنصوص قد يكون استثنائيا في فظاعته ولكنه ليس استثنائيا في حرفيّته». وقصده أن التأويل الحرفي للنصوص موجود منذ قرون في حضارة الإسلام وأن كل ما ترتكبه داعش، بفعل هذا التأويل الحرفي، له سوابق في تاريخ الإسلام.
الملاحظة اللافتة في مقال هولاند هي قوله إن انتشار الانترنت في القرن 21 قد جعل النصوص الدينية «يسيرة المنال لمطربي ‘الراب’، وعمال الحراسة وفتيات المدارس» تماما كما أن بدايات استخدام المطبعة والجهود التي بذلها المترجمون من أمثال مارتن لوثر أوائل القرن 16 قد أدت إلى ترويج «ديمقراطي» للمعرفة بنصوص الكتاب المقدس بين عموم الناس في أوروبا. هذه ملاحظة هامة. على أن الفارق الذي لم ينتبه له هولاند هو أن حركة الإصلاح الديني التي شملت ترجمة الأناجيل من اللاتينية إلى الألمانية وغيرها من اللغات الأوروبية إنما أسقطت الوساطة، أو الوصاية، التي كانت تمارسها السلطة الكنسيّة. وهذا تحصيل حاصل عندنا لأن مفهوم طبقة «رجال الدين» غير ذي موضوع في الإسلام. 
أما الانترنت (بعض الشبان اشتروا من «أمازون» كتبا مبسطة ككتيبات الأطفال بالانكليزية والفرنسية بعنوان «القرآن لمن لا يعرفون شيئا» قبل أيام من مغادرتهم أوروبا للقتال في صفوف داعش!)، فقد أشاع فوضوية الجهل لا ديمقراطية المعرفة لأنه أسقط الشروط العلمية اللازمة لقراءة الكتاب والسنة، بحيث فاقم لدى هذا الجيل مخاطر القراءة بدون فهم ومهالك الجدال، بل والقتال، بغير علم. هذا رغم أن من واجب المسلمين أن يسألوا أهل الذكر من علماء الدين إن كانوا لا يعلمون. ذلك أن الدين علم تفنى في طلبه الأعمار. 
ولكن المتوازيات والمقارنات قد استهوت هولاند إلى حد إسقاط تاريخ المطبعة الإصلاحية على الانترنت التكفيري، بل وجعل السلفية صنوا للبروتستانتية وابن تيمية معادلا لمارتن لوثر!

٭ كاتب من تونس

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    في البداية يجب أن أقول فيما يدافع عنه المثقف والسياسي في المقال عن مفهوم دولة “الحداثة” كلبنة اساسية لنظام الأمم المتحدة، أريد أن أفهم كيف يمكن أن يكون هناك هيبة أو أي نوع من أنواع الاحترام للنخب الحاكمة في أي دولة تقبل أن تقتل وتعذّب وتبيع مواطنيها، فقط لأنّهم اختلفوا مع النخب الحاكمة في الرأي، وتم وصمهم من قبل النخب الحاكمة بالإرهاب في المقابل؟ فهذا هو السبب الأساسي في أزمة الحكم في دولة “الحداثة” بشكل عام في نظام الأمم المتحدة بعد 11/9/2001 على الأقل من وجهة نظري، لأنني أظن هذه المقالة تمثل القالب النمطي الذي يضع العلماني أو الفلسفي بشكل عام فيه “الإسلام وحكمته” في موقفه من كل تيارات الإسلام السياسي بمختلف أطيافها ليست فقط سلفية أو سنية أو شيعية من وجهة نظري على الأقل، ولذلك يعمل على اقصائها وإلغائها من المجتمع كما يفعل الآن عبدالفتاح السيسي بل وحتى في دولة ولاية الفقيه الإيرانية ولا ننسى كذلك دول الخليج، فقط لأنها لا تدخل من ضمن ثقافة الـ أنا للمثقف والسياسي في دولة “الحداثة”، وهو ما يحاول رجب طيب أردوغان التعامل معه من خلال معالجة المشكلة الكردية في دولة “الحداثة” لتركيا.

إشترك في قائمتنا البريدية