عشر سنوات على الانقلاب… أين مصر الآن؟

في جولة جمعت وزيري الخارجية المصري سامح شكري والتركي مولود جاويش أوغلو في قصر التحرير بالقاهرة في مارس الماضي، أظهر فيديو الزيارة جدارا يحمل صورا لستة رؤساء مصريين منذ ثورة 1952 وهم: محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، وعدلي منصور، وعبد الفتاح السيسي، وغابت صورة الرئيس السابق محمد مرسي عن الجدار. إنه أمر غريب ويدل على سذاجة لا حدود لها، لأن التاريخ الماضي لا تصنعه إرادة الحاضر، قد تزينه أو تقبحه، لكن لا تلغيه. ‎
تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة لما سمي «الثورة الثانية» أو مسيرات 30 يونيو 2011، التي قدرت بالملايين احتجاجا على حكم الإخوان المسلمين، والتي مهدت يوم 3 يوليو بقيام وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، بانقلاب أطاح بأول حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا، والتي، سلبا أو إيجابا، عبرت عن إرادة شعبية حرة في فترة ما بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك بعد 30 سنة من الحكم الفردي السلطوي. انتخبت تلك الحكومة لمدة أربع سنوات، وكان من حقها أن تستكمل المدة والشعب يقرر عندئذ مصيرها بإعادة انتخابها أو الإطاحة بها. الانقلاب لم يلتزم بأي من الطرق الشرعية المعمول بها عالميا للإطاحة بحكومة منتخبة، كالاستفتاء أو تصويت في البرلمان على سحب الثقة أو الاستقالة الطوعية، بل استخدم القوة المفرطة. الانقلاب وجه الرصاص لصدور المتظاهرين والمعتصمين السلميين في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة ورمسيس ومسجد الفتح وغيرها، وضيّق على الحريات بإغلاق فضائيات المعارضة واعتقال عدد كبير من الصحافيين ورموز المعارضة، وألغى كل ما يتعلق بثورة 25 يناير وسجن رموز الحراك، كما أن محكمة جنايات القاهرة أفرجت عن الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك وبقية رموز حكمه مثل حبيب العادلي ونجليه علاء وجمال وغيرهم.

مصر الآن أصبحت فاقدة الوزن لا دور لها في تطورات عالم اليوم، الذي تلعب فيه القوى الإقليمية الثلاث في المنطقة إيران وتركيا والكيان الصهيوني وأخيرا السعودية

ومن المفيد أن نراجع السنوات العشر، وأهم المطبات والتحديات التي واجهتها مصر وهي كثيرة وفي كل المجالات وسأركز على ثلاثة: سد النهضة الإثيوبي، وبيع جزيرتي تيران وصنافير، وحصار غزة، وسأترك موضوع التدهور الاقتصادي وارتفاع الديون إلى مستوى خيالي وتراجع قيمة الجنيه المصري، فذاك بحاجة إلى مقال مستقل.

سد النهضة الإثيوبي

أعلن وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين يوم 22 يونيو 2023 أن سد النهضة الذي تبنيه بلاده «يقترب حاليا من الملء الرابع»، أي أن السد يكاد يكتمل بناء وتشغيلا. لقد بدأت إثيوبيا عملية بناء سد النهضة الكبير على النيل الأزرق عام 2011 دون التشاور، أو حتى الاتصال بالجارين السودان ومصر. وعدت إثيوبيا عند بدء المرحلة الأولى من ملء السد عام 2020 من الانتهاء خلال ثلاث سنوات، وها هي تنجز ما وعدت به، بينما كانت تطالب مصر والسودان بالتريث في الملء ليستغرق سبع سنوات لتأخذ فرصة للتكيف والتعامل مع الآثار. لم تقبل إثيوبيا أي وساطة إلا الاتحاد الافريقي الذي رأى أنها أزمة فنية وليست سياسية، تتعلق بالأمن القومي لبلدي المصب. استندت إثيوبيا في موقفها على بنود اتفاقية «إعلان المبادئ» لعام 2015، حيث اعتبرتها ملزمة كونها وقعت بين زعماء الدول الثلاث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مصر، والرئيس عمر البشير عن السودان، ورئيس الوزراء الإثيوبي هيلا ماريام ديسالين. بينما اعتبرتها مصر والسودان إعلان مبادئ فقط وغير ملزمة. وتتكون الاتفاقية من عشرة بنود تعهدت الدول الثلاث الالتزام بها. وقد قبل السيسي في زيارة للبرلمان الإثيوبي أن يقسم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على القرآن (علما أنه غير مسلم) في يونيو 2018 بأنه لن يضر بمصر. حاولت مصر تدويل الأزمة عبر مجلس الأمن لكنها فشلت في ذلك، وكل ما أخذت من المجلس بيانا رئاسيا في سبتمبر 2021 أغلق الباب أمام محاولات الدولتين العودة إلى المجلس، عندما أكد أن هذا البيان لا يعتبر سابقة لحل أي منازعات تتعلق بالمياه العابرة للحدود، واعتبر أزمة سد النهضة ليس من اختصاص المجلس لأنها، كما وصفها البيان «فنية وإدارية». اختفت لغة التهديد باعتبار الأمن المائي جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي، وعاد السيسي يستخدم اللغة الناعمة حول الأزمة، فقد صرح أخيرا في مؤتمر صحافي بحضور الرئيس الموريتاني: «شددنا على أهمية حث إثيوبيا، على التحلي بالإرادة السياسية، للأخذ بأي من الحلول الوسطى التي تم طرحها على مائدة التفاوض، والتي تلبي مصالحها، دون الافتئات على حقوق ومصالح دولتي المصب».

نقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير

نشرت الجريدة الرسمية في مصر، القرار الجمهوري رقم 607 الصادر بتاريخ 29 ديسمبر 2016 بالموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين حكومتي جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية الموقعة في القاهرة بتاريخ 8 إبريل 2016. ورغم الرفض الشعبي لنقل ملكية الجزيرتين، ورغم موجة الاحتجاجات التي نظمتها أحزاب المعارضة، التي أعلنت عدم اعترافها بقرار البرلمان، خاصة في ظل صدور حكم قضائي من المحكمة الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية، إلا أن مجلس الشعب المصري أقر الصفقة عام 2017، وصادقت عليه المحكمة العليا المصرية عام 2018، إلا أن الصفقة كانت بحاجة إلى موافقة إسرائيلية والتي أعطت موافقتها على نقل الجزيرتين للسعودية، بناء على الاتفاق بين الرياض والقاهرة، والعمل على إنهاء اتفاق عمل القوات متعددة الجنسيات وحرية الملاحة في المضيق. حاولت مصر أن تتأخر، أو ربما تتراجع عن نقل ملكية الجزيرتين، احتجاجا على تجميد جزء من المساعدات الأمريكية لمصر بسبب وضع حقوق الإنسان، إلا أن إدارة بايدن بدأت في سبتمبر 2021، وبهدوء، الوساطة بين السعودية ومصر وإسرائيل، وتم إنهاء الخلاف يوم 15 يوليو 2022 قبل يوم من وصول بايدن إلى السعودية. وكجزء من الاتفاق، وافقت السعودية على السماح للطيران الإسرائيلي المتجه شرقا إلى الهند والصين بالمرور عبر الأجواء السعودية. ضم الجزيرتين للسعودية حوّل المياه في خليج العقبة مياها دولية بعد أن كانت إقليمية، إسرائيل هي المستفيد الأكبر.

غزة والحصار المزدوج

أثناء عملية «عامود السحاب» من 14 إلى 22 نوفمبر 2012 في عهد الرئيس مرسي، تم سحب السفير المصري من تل أبيب لأول مرة، ودعا الرئيس لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب ومجلس الأمن الدولي. وأعلنت مصر فتح معبر رفح على مدار الساعة والسماح لجميع المساعدات الإنسانية والطبية بالدخول إلى غزة وفتحت مستشفيات العريش للجرحى الفلسطينيين، كما سمحت الحكومة للمظاهرات الشعبية والفعاليات الجماهيرية للتعبير عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني. وصل غزة رئيس الوزراء هشام قنديل على رأس وفد كبير للتضامن مع غزة، وأعلن الرئيس مرسي «لن نتخلى عنكم يا أهل غزة». وليس غريبا ما كشفته الصحف العبرية عن تعليمات نتنياهو لسفرائه في الدول الغربية بالقيام بحملة واسعة لشرح فوائد انقلاب الجيش المصري وآثاره الإيجابية على إسرائيل. كما تصدت منظمة الإيباك وما زالت لمنع الكونغرس الأمريكي بوقف المساعدات الأمريكية للجيش المصري. إننا نعتقد أن هذا هو السبب المباشر في تدبير أمر الانقلاب الدموي وقصة الاحتجاجات الشعبية كانت جزئيا على الأقل عملية إخراج للانقلاب. ففي حرب «الجرف الصامد» صيف 2014 والتي استمرت 55 يوما، الأطول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانا باردا وصف الحرب بأنها «عنف متبادل» وطرح السيسي مبادرة بإعلان هدنة رفضتها الفصائل الفلسطينية كافة، واعتبر النظام ذلك حجة لإدارة الظهر. قامت القوات المصرية بعدها بتدمير نحو 1200 نفق كانت تعتبر شريان الاقتصاد البديل لغزة المحاصرة. وتم تجريف كل المناطق المأهولة بالسكان بعمق كيلومتر من حدود القطاع وأقيم خندق عميق على طول الحدود ملئ بالمياه العادمة كي يمنع أي تسلل من القطاع. أما المعبر الوحيد للقطاع على العالم العربي بكامله فيكاد يبقى شبه مغلق والسعيد من يسمح له بالدخول والخروج، فعليه أن يدفع كميات ضخمة من الدولارات ويتعرض لعمليات إذلال وابتزاز لا حدود لها. لقد تحول قطاع غزة الآن، بتعاون مصري إسرائيلي، إلى أكبر سجن بشري في عالم اليوم. لقد تحولت مجموعة قمة النقب للدول العربية المطبعة، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني والولايات المتحدة آلية لحماية الأمن الصهيوني. مصر الآن أصبحت فاقدة الوزن لا دور لها في تطورات عالم اليوم. قارنوا بين دور مصر وغيابها والأدوار المهمة التي تلعبها القوى الإقليمية الثلاث في المنطقة إيران وتركيا والكيان الصهيوني وأخيرا السعودية. نريد أن نشاهد مصر تسترد عافيتها وتتخطى كثيرا من مشاكلها لتعود إلى مكانها الطبيعي في قيادة الأمة العربية نحو التقدم والاستقلال والتحرر، ودحر الأعداء الكثيرين وأولهم الكيان الصهيوني الذي دفع الشعب المصري مئات الألوف من الشهداء خلال سنوات الصراع. فهل ننتظر عودة مصر لمقعد القيادة لتساهم في صنع سلام دائم وعادل وشامل يعيد للفلسطينيين والعرب حقوقهم جميعها دون مساومة أو تفريط.؟
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بو لاية نيوجرسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية