يمكن لأي جماعة في سوريا أن تبني سردية مظلوماتية، فالجميع يملك وقائع تتعلق بالقمع والقتل والتدمير والتهجير. وقائع غالبا ما تصبح الجماعة ضحيتها، ويصير الباب مشرعاً للتعميم، عند محاولة تحديد موقع المظلوم. الأرجح، أن إهمال الفرز بين السياقات التي عقّدت المسألة السورية، وخلطت في أدوار المؤثرين فيها، سهّل التعميم. فلم يُنظر للمظلوميات انطلاقا من كل تحول وما أحدثه من نتائج. ففي البداية، استُهدفت البيئات السنية بوصفها حاملة التمرد، لكن لاحقا مع الانتقال للحرب الأهلية صار الجميع متضررين بفعل عشوائية الصراع وردود الفعل التي أفرزها، من طائفية وطائفية مضادة، وتقسيم مناطق، وتهجير، وتدخلات خارجية، إحدى نتائجها نصرة الجماعات ضد بعضها بعضا.
ثمة فارق كبير بين تدمير جزء من بيئة، اجتماعاً وعمراناً، وبين أضرار عانى منها هذا الطرف أو ذلك بفعل فوضى الحرب وما ولدته من نزعات انتقامية. فضلا عن أن النهاية النسبية للحرب عبر الحسم العسكري، ومن دون اتفاق عادل، عمّق المظلومية الأكثرية، التي شعر جزء واسع منها بالهزيمة، فيما استجدت مظلومية جديدة في البيئات المقابلة قوامها، تدهور الوضع الاقتصادي، وانهياره لاحقا.
وضع المظلوميات في إطار التحولات التي حكمت مسار الحدث السوري في الـ12 سنة الماضية، قد يخفف من إطلاقيتها، بحيث تصبح محددة بزمن وفعل وأسباب
بكل الأحوال، وضع المظلوميات في إطار التحولات التي حكمت مسار الحدث السوري في الـ12 سنة الماضية، قد يخفف من إطلاقيتها، بحيث تصبح محددة بزمن وفعل وأسباب. سردية المظلومية عند الجماعات غالبا ما تكون مفتوحة على التاريخ، بحيث يمد جزء من الأكثرية السنية مظلوميته الراهنة، إلى حدث إلغاء الخلافة وانهيار السلطنة العثمانية و»تآمر الغرب». في المقابل، الزمن العثماني لدى الأقليات مجال رحب للعودة إلى أوضاع تمييزية وقمع انتفاضات، تغذي مظلومية الراهن بمادة تاريخية دسمة. مشكلة التاريخ، في هذا السياق، تداخله مع المتخيل والسرديات الشفوية، بحيث يصعب الفرز ما بين الحقيقي واللاحقيقي عند سرد جماعة لمظلوميتها. هذا التحدي، يبدو معطوفا على ما هو أخطر، أي الماضوية. إذ إن الجماعات ترهن حاضرها ومستقبلها للماضي، نحن مظلومون لأن أجدادنا ظلموا، ونحتاج دائما لتعبئة هذه السردية بوقائع من الحاضر، كي لا ننسى وتفتر همتنا عن الانتقام. هذا الارتهان لماضي، المتخيل فيه يختلط مع الحقيقي، وصفة انتحارية للجماعة التي تحيل كل مآسيها للآخر. مسألة الآخر، يمكن أن نقيس عليها، لنضيف إلى ضرورة ضبط المظلومية زمنيا وحدثيا، ضرورة أخرى تتمثل بمسؤولية الجماعة نفسها، ولو جزئياً، في صناعة مظلوميتها. الجماعات قد تدرج أوضاعها المتردية تعليميا وثقافيا واقتصادياً في إطار المظلومية، وتعتاد عليها، وربما تجعلها جزءاً من تكوينها الذي لا بد من التمسك به للحفاظ على الذات وتحصين وجودها مقابل الآخر. ثمة أمثلة كثيرة على ذلك، تصدي بعض الأقليات للإصلاحات، مطلع القرن العشرين دفاعا عن مصالح الإقطاع وملاك الأراضي، كذلك ارتداد الأكثرية حالياً، كلما شعرت بالاضطهاد إلى قيم محافظة، ضحيتها المرأة والمجتمع المدني. المظلومية إذن تستوعب أسوأ ما في الجماعة وتطابقه معها، انطلاقا من توهم أن في ذلك قوة وتماسكا.
وبالنتيجة، تحديدها بشرطها الراهن والانتباه لمسؤولية الذات عنها، يحرر المظلومية من أمرين، الأول، سيولة الذاكرة بما فيها الحمولة الشفوية التي تختزن حكايات وقصصا مضخمة، والثاني، تخفيف إحالة كل الشرور على الآخر وإعفاء الذات من أي نقد. هذان العاملان، يمهدان لتسييس المظلومية، فعندما نقلل الإطلاقية ونمرن الذات على تحمل المسؤولية، يصبح ربط المظلومية بمطالب سياسية محددة، أقل صعوبة. بمعنى أن تترجم كل جماعة مظلوميتها الخالية من التاريخ والتضخيم الخيالي واللوم الدائم للآخر، إلى طرح سياسي قابل للنقاش. مع الأخذ بالاعتبار أن هناك بيئات تحطمت لأنها انتفضت، وأخرى تأثرت سلباً بفعل الحرب الأهلية وتعاني حالياً من أزمات وانهيارات. هذا التمييز قد يكون مدخلاً للمرور بأول خطوات عقلنة المظلوميات السورية، أي تخليصها من الظلم المطلق وتحديدها بشرط راهن قابل لوضع حلول.
كاتب سوري