هدايا الكتب

من الأشياء المعتادة، وعند زيارة أي مبدع لبلد ما، أن يلتقي بمبدعي ذلك البلد، أو مبدعين آخرين من بلاد شتى، يجتمعون في ملتقى، أو مؤتمر ثقافي، يتم خلاله التعارف الجيد، وتبادل الثرثرة، في الثقافة وغيرها، وربما صداقات تمتد إلى أزمنة أخرى، لكن أهم ما يحدث في رأيي هو هدايا الكتب التي قد تطغى على كل أنواع التواصل الأخرى.
حقيقة أي مبدع ألف كتابا ونشره، ووزعه، وتأكد أن ثمة قراء اقتنوه، وتغلغلوا في مادته، يحمل طموحا من نوع خاص، أن يقرأ كتابه بواسطة مبدع زميل، إما من جيله أو أجيال أخرى تسبقه أو تأتي بعده، وتكتمل سعادته بالفعل حين يخبره الزميل بأنه قرأ الكتاب، وأعجبه.
بعض الكتاب يكتفون بهذه الإشارة، ويحتضنونها، وبعضهم يمعن في استنطاق الزميل الذي ذكر بأنه قرأ، ليتأكد فعلا أنه قرأ الكتاب، وأدلى بذلك الرأي الإيجابي عن قناعة، وليس عن مجاملة. وهنا من المؤكد أن هناك من لا يهتم بهديته من الكتب، وقد لا يعود إليها أبدا وسط تراكم أشغاله الخاصة. وهناك من لا يحملها أصلا من الفندق الذي تلقاها فيه، لأسباب عديدة، منها كثرة الكتب التي أهديت، وضيق الحقيبة، وتنقله من بلد لبلد، في جولة قد تنتهي بعد زمن، والأهم من ذلك، ثقته المفرطة بأنه لا يملك وقتا لقراءة كل ما يقتنيه شخصيا من المكتبات ومعارض الكتب، ناهيك عن هدايا وصلته من أصدقاء، أو كتاب يافعين، ولا يعرف قيمتها بعد.
لذلك وفي جولات على أسواق الكتب القديمة، في كل المدن تقريبا، من الطبيعي أن تعثر على كتب مهداة لشخص ما، وما زال الإهداء مؤطرا على صفحتها الأولى، تباع هناك، وغالبا ما يكون المبدع قد تركها حيث أقام، وعثر عليها نادل أو عامل نظافة لا علاقة له بالكتب وبالثقافة، فقام ببيعها، لتعرض بتلك القيمة الزهيدة. وأنا شخصيا من الذين اعتادوا التنزه في أسواق الكتب القديمة، أو المفروشة كما تسمى، وحدث أن عثرت على كتب عليها إهداءات لكتاب معينين، وكان بعضها ذا قيمة كبرى، لكن الذي أهديت إليه، لم ينتبه، وسط أكوام الكتب الأخرى التي أهديت له، وشكلت عبئا كبيرا. وقد أخبرني كاتب كبير راحل، أردت أن أهديه كتابا في بداياتي، أثناء مروره بالبلد الذي أقيم فيه، بأنه سيقبل كتابي، ويتعهد لي بقراءته، فقط لو قبلت أن أحمل هداياه من الكتب التي قدمت له هنا حتى الآن، لأنه لا يستطيع التنقل بها، ولا يستطيع أن يتركها، وأيضا لن يستطيع قراءتها على الإطلاق. وكان أن حملت أكثر من ثلاثين كتابا، قلبتها فيما بعد على عجل، وكان معظمها خواطر إنشائية، بلا قيمة إبداعية، وفيها كتابان جيدان يحويان نظريات نقدية كما أذكر، لكن وبالرغم من ذلك، لم يقرأ الرجل كتابي كما أعتقد، وربما تركه في مكان آخر ذهب إليه، أو أهداه لكاتب مبتدئ آخر، جاء يهديه كتابا.
بعد أن أصبت بداء السفر، والمشاركة في الملتقيات المتعددة، هنا وهناك، ولقاء الأصدقاء من الكتاب، وأيضا لقاء كتاب شباب، يهمهم أن أقرأهم، أصبحت أتلقى هداياي من الكتب، بعضها مباشرة من أيدي من ألتقيهم، وبعضها مرسل بواسطة آخرين، وأحيانا أجد كتبا ملقاة أمام غرفتي حيث أقيم، وعليها إهداءات، وبلغ في إحدى زياراتي لدولة عربية أن وصلني سبعون كتابا تتراوح بين الشعر والرواية والمسرح والخواطر، سهرت في تقليبها ليلة سفري لبلدي، ولم أعرف كيف أحملها، وأيضا كان من الصعب تركها، وكان أن وضعتها في حقيبة إضافية، وحملتها معي، بما يشكل وزنا زائدا لحقائب السفر، وعبئا على الذهن أن يفكر حتى في إمكانية قراءة كل ذلك.
أعتقد أن الكتاب هو بطاقة الكاتب التعريفية، وبها يمكنه أن يكتسب معارف وأصدقاء، وأيضا يمكنه أن يقدم نفسه لدور النشر التي لا تعرفه، وللمستشرقين الأجانب حين يزورون بلده، طمعا في ترجمة.
الكاتب المبتدئ أو الشاب، أكثر حاجة لبطاقته التعريفية، ودائما ثمة عشم في كتاب كبار ومخضرمين أن يطلعوا على نتاجه ويقيموه، وأعرف شخصيا من ذكريات البداية، أن الكتاب المطبوع لكاتب شاب، لم يظهر هكذا في المكتبات أو في يد صاحبه، بمعجزة، لكنه ظهر بعد خوض كثيف وطويل في وحل غير ضروري أبدا، وصيره الطموح المرافق لجرثومة الكتابة، وحلا ضروريا. الشاب يتعب كثيرا، ويطرق أبواب النشر، ويوفر من ماله، ويدفع، ويفرح حين يرى الكتاب، ويود أن يفرح حين يخبره الكبار بأنهم قرأوه وأحبوه، ولا أكثر من إحباط حين ينتهي كتابه بعد هذه الرحلة الطويلة، إلى طاولة في غرفة فندق، أو سوق تباع فيها الكتب المستعملة، من دون أن يكون الكتاب قد استعمل. وفي الوقت نفسه كما قلت، يكون الكاتب القديم المقصود بالهدية، والمؤمل أن يقرأ التجربة ويقيمها، مثقلا بأعباء لا تسمح له بالتحرك بوصة بعيدا عنها، وبذلك يكون الإحباط مضاعفا، عند من أنتج بمرارة، ومن لا يستطيع تقييم الإنتاج، بمرارة أيضا.
بالنسبة لي شخصيا، ومنذ سنوات لم أعد أحمل كتبا في حقيبتي إلا نسخا قليلة ولأصدقاء معينين أثق أنهم سيقرأوها، أو قراء يتابعونني، وتجمعهم بي صداقة، ولم يحصلوا على كتاب معين لي حيث يقيمون، وبذلك أعفي الآخرين من عبء امتلاكهم لكتبي المهداة، وأعرف أنهم سيقتنونها من أي معرض للكتب إن أرادوا قراءتها بالفعل.
طبعا لا أريد لتقليد إهداء الكتب أن يتوقف، ففيه تقدير كبير من الذي يهدي للذي يهدى إليه، وفي الوقت نفسه، لا بد من العثور على صيغة تجعل الهدايا مقدرة، في الحقائب، وفي جداول قراءتنا بعد ذلك.
كاتب سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ماليزيا:

    هل لي أن أعثر على اسم صفحة الكاتب تاج السرعلى الفيسبوك؟
    وشكرا

إشترك في قائمتنا البريدية