العالم يحترق على الهواء مباشرة.
قلّب أيّا من محطات التلفزيون عبر العالم، وسيكون موضوعها المشترك السخونة غير المسبوقة، التي تشهدها مختلف أقاليم العالم شرقه وغربه! اليونان وإيطاليا أغلقتا معالمهما السياحيّة الرئيسيّة في وجه الزّوار، ومدن إسبانيّة أصبحت عملياً غير صالحة للحياة البشريّة، فيما مناطق شاسعة من جنوب أوروبا وكندا والولايات المتحدة والمكسيك تستسلم لحرائق الغابات، بعدما تحطمت كل الأرقام القياسية لدرجات الحرارة المسجلة فيها، منذ بدء السجلات في خمسينيات القرن التاسع عشر متجاوزة 46 درجة مئوية، فيما كان «وادي الموت» في كاليفورنيا – وهو من بين الأماكن الحارة على وجه الأرض – قد سجل للتو رقما قياسيا جديدا لمنتصف الليل الأكثر سخونة على الإطلاق بين الساعة الثانية عشرة ليلاً والواحدة صباحاً، حين لامست الحرارة هناك 49 درجة مئوية.
وحتى موسكو، مضرب المثل العالميّ في برودة الطقس، سجلت 28 درجة مئوية في بداية الشهر الجاري، وهو أيضاً رقم قياسي للمدينة.
ومن المعروف أن ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يشكل خطراً على حياة الإنسان عند تجاوز درجة 39 مئوية، في حين أن تجاوز مستوى 51 درجة مئوية يعتبر خطيراً للغاية، وقد يكون كافياً لوصول الناس إلى حافة الموت. وتوفي في أوروبا وحدها خلال الصيف الماضي – الذي كان حاراً بدوره – أكثر من ستين ألف شخص بسبب ضربات الشمس والحرارة الشديدة أغلبهم من كبار العمر.
يقول علماء إن متوسط درجة حرارة الهواء العالمي كان خلال الأسبوع الماضي الأكثر سخونة على الإطلاق، بعد أن تجاوز 17 درجة مئوية على ارتفاع مترين من سطح الأرض، بينما تم تحطيم الرقم القياسي لثلاث مرات متتابعة خلال الأسبوع الماضي.
وزعم خبير كان يتحدّث لأحد التلفزيونات الألمانيّة أن آخر مرة كان فيها الكوكب بهذا الدفء حدثت قبل حوالي 125 ألف عام، فيما قال خبير بريطانيّ إن هذه الارتفاعات غير المسبوقة في درجات الحرارة مدفوعة بمزيج من تغير المناخ ومجموعة متموجة بشكل غير عادي من الرياح القوية، المعروفة باسم التيار النفاث (أو نمط أوميغا)، فوق شمال المحيط الأطلسي.
على أن خبراء أمريكيين يعتقدون أن المسألة ليست مقتصرة على (التيار النفاث)، بل إن نمط مناخ ظاهرة النينيو، حيث درجات الحرارة المرتفعة في المحيط الهادئ، قد يعني ببساطة أن المزيد من معدلات الطقس الحار القياسي سيتم كسرها في وقت لاحق من هذا العام.
الأسوأ لم يأت بعد
أنطونيو غوتيريس، الأمين العام للأمم المتحدة، اعتبر في بيان له «الوضع الذي نشهده دليل على أن تغيّر المناخ أصبح خارجاً عن السيطرة»، و «إذا واصلنا تأخير اتخاذ الإجراءات الرئيسية المطلوبة، فسنكون على وشك الانتقال إلى وضع كارثي، كما يظهر من آخر سجلات درجة الحرارة».
لعل المقلق ليس في مجرّد وصول درجات حرارة الهواء إلى هذه الأرقام القياسية، بقدر توقع خبراء الطقس أن الكوكب يتجه إلى حالة تكون فيها الحرارة المرتفعة أكثر شيوعاً في المستقبل القريب، ولفترات أطول خلال العام.
في الوقت نفسه، أكدت بيانات (أوروبيّة) هذا الأسبوع أن متوسط درجات الحرارة العالمية في يونيو/حزيران 2023 كان أعلى بمقدار 1.46 درجة مئوية من مستويات ما قبل عصر الصناعة، مقتربا أكثر من أي وقت مضى من عتبة 1.5 درجة مئوية، التي تعهدت دول العالم خلال قمة المناخ في باريس 2015 بعدم تجاوزها.
وحذّر علماء أوروبيّون تحدثوا إلى محطة تلفزيون نرويجيّة أن الزيادات في درجات الحرارة تحدث نهاراً وليلاً، وهو أمر خطير إذ «لا تدع للناس فرصة لاسترداد أنفاسهم خلال وقت الليل من الحرارة الشديدة أثناء النهار».
يقول فريق متخصص من علماء جامعة هارفارد الأمريكيّة إن نمذجتهم لأوضاع الطقس تتجه ضمن سيناريوهات مختلفة، تأخذ بعين الاعتبار أنماط الزيادات السكانيّة وأحجام النشاط الاقتصادي إلى ارتفاع معدل درجة حرارة الهواء في الكوكب ما بين 2.1 و4.3 بحلول العام 2100، وهو ما يعني أن أكثر من خمسة مليارات من البشر سيعيشون حينها في مناطق قريبة من خط الاستواء (مثل الهند وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشبه الجزيرة العربية) تكون درجة الحرارة فيها مرتفعة معظم الأيّام، وعلى مستويات خطيرة على صحة البشر (تتجاوز 51 درجة مئوية) لأكثر من 15 يوماً سنوياً، وقد تتعرض المناطق البعيدة عن خط الإستواء لموجات حارة قاتلة لفترات تتراوح بين 15 و90 يوماً، مذكرين بموجة حرّ نادرة ضربت شيكاغو في 1995 وأدت إلى مقتل أكثر من 500 نسمة، وأن مثل تلك الموجة قد تصبح بمثابة حدث سنوي متكرر.
موسم العودة إلى العمارة التقليديّة
في تغطية خاصّة حول ارتفاع درجات الحرارة لأحدى الشاشات الأمريكيّة، وصف أكاديمي متخصص في شؤون المناخ الارتفاعات القياسيّة لدرجات الحرارة بأنها «مثيرة للقلق»، وأنّه لا مفرّ لتجنّب آثار الحرارة من اتخاذ إجراءات احترازية استراتيجية تتعلق بالتقليل من الانبعاثات التي تتسبب بظاهرة الاحتباس الحراري، وأخرى تكتيكيّة تتضمن إجراء تعديلات على المباني القائمة ومواصفات البناء كي تشمل أنظمة لتكييف الهواء وبعض الإجراءات الاحترازية الأخرى، التي من شأنها مساعدة السكان على التعايش مع المناخ الأكثر سخونة. ولكن تضاعف عدد وحدات التكييف في مجتمعات لم تحتج إليها أبداً مثل شمال أوروبا مثلاً قد يكون في مجموعه كارثياً للبيئة ومزيداً من ارتفاعات درجة الحرارة، بالإضافة إلى اختلالات التوزيع الكهربائي بسبب اعتماد عمليّات تكييف الهواء الحديثة على الكهرباء.
ولعل أفضل الحلول التي يقترحها المعماريون هي استدعاء طرق تصميم البيوت والمباني في الشرق الأوسط القديم، حيث امتلكت المباني خصائص تساعد على خفض درجة الحرارة بشكل ملموس، مثل مصدات الرّياح التي تلتقط النسيم البارد من مستوى أعلى من سطح الأرض وتعيد توجيهه إلى داخل المبنى، وتظليل نوافذ أصغر نسبياً بأنواع من الشبك، وتركيب مصاريع خارجيّة لها تغلق نهاراً وتفتح ليلاً، مع استخدام مواد بناء تساعد على عزل المبنى حرارياً، وإعادة تصميم المساحات المشتركة في المنازل كي تسمح بتهوية أفضل. ومع ذلك تبقى هذه الحلول محليّة، ويتطلّب الانتقال إليها خطوات تنظيمية واستثمارات جبّارة، ناهيك عن كونها غير كافية للتعامل مع الاحتباس الحراري.
رأسماليّة تعتاش من استهلاك البشر والطبيعة
إن موجة الحر الأخيرة هذه تدفعنا إلى فقدان الأمل بعدم تجاوز ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض بدرجة مئوية ونصف مع حلول العام 2050 كما كان مؤملاً في قمة باريس، إذ يتنبأ العلماء الآن بأننا سنكسر ذلك الرقم خلال العام المقبل (2024) ما سيكون له عواقب وخيمة على البشرية جميعاً، حيث لا يمكن التحكم بتغييرات مناخيّة متباينة قد تكون ذات تأثير كارثيّ.
لقد فشلت الأنظمة السياسية التي تقود العالم في العمل سويّة بعقلانية لمواجهة هذا الخطر الوشيك، واستسلمت لسياسات الرأسماليّة قصيرة النظر، التي تصنع الأرباح للقلة المتنفذة من خلال استهلاك موارد الكوكب مصدر الثروة ذاته (البشر من خلال الحروب والأوبئة والأمراض المزمنة المرتبطة بالاستهلاك) والطبيعة (عبر استمرار تدمير الغابات وإطلاق الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري وتلويث البيئة من خلال الصناعة واستخدام وسائل الطاقة الأحفوريّة).
انعكاسات جريمة الاحتباس الحراري، التي قادتها بشكل رئيسي الدول الصناعية الكبرى، لن تتوزع بعدالة على البشر جميعاً – أقلّه في البداية، إذ في المناطق المعتدلة في شمال القارة الأوروبيّة ومعظم الولايات المتحدة قد لا يكون تأثير عبور حاجز 1.5 درجة مئوية كبيراً بالمقارنة مع مناطق أصلاً حارة، حيث يمكن للزيادات أن تكون مسألة حياة أو موت، ولذلك فإن سكان الشمال قد ينجون مع بعض المعاناة، بينما ستدفع شعوب الجنوب – ومنها بلادنا العربيّة – ثمناً باهظاً لذنب كانت مساهمتها فيه هامشيّة بالمقارنة. لقد قتلتنا الرأسماليّة!
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن