لا بد أن تشعر برغبة عارمة للضحك عندما تسمع بعض المحللين وهم يصفون هذا النظام العربي بالقومي أو الإسلامي أو الطائفي أو العسكري أو الديكتاتوري أو الشمولي، وكأن العرب هم من يختار ويحدد توجهاتهم وطبيعة أنظمتهم السياسية والأيديولوجية وحتى الثقافية والدينية. لا أعتقد أن هناك نظاماً عربياً يستطيع أن يستقل في توجهاته السياسية أو العقائدية بمنأى عن التوجيهات والإملاءات الخارجية، فإذا كان سادة العالم الكبار يفرضون فرماناتهم على الدول الأقوى من العرب بكثير، فهل يعقل أن يستطيع العرب تحديد ورسم سياساتهم وتوجهاتهم باستقلالية بعيداً عن الإيماءات الخارجية؟ طبعاً لا. هل تتذكرون يوماً عندما انتخب الشعب النمساوي زعيماً اعتبرته أمريكا والغرب عموماً متطرفاً وخارجاً عن السرب الغربي؟ ماذا حدث ليورغ هايدر وقتها، مع أنه كان منتخباً ديمقراطياً بأصوات الشعب؟ لقد مورست ضغوط كبيرة على النمسا في ذلك الوقت مما اضطر هايدر للاستقالة من منصبه، ثم قضى الرجل نحبه بعد فترة في حادث سير!! حتى الدول والشعوب الأوروبية نفسها غير قادرة أن ترسم توجهاتها الخاصة بمعزل عن إرادة القوى الأقوى في العالم؟ ربما سيقول البعض إن الأوروبيين ينتخبون أحياناً حكومات يمينية ولا أحد يستطيع أن يتدخل في العملية الديمقراطية. وهذا صحيح، لكن هذا لا يعني أن تلك الحكومات تعادي الخط السياسي الأعلى في العالم، بل يكون مرضياً عنها وهي تنفذ معظم ما يُطلب منها.
قد يعتقد البعض أننا مسكونون بنظرية المؤامرة، وأن التدخل الدولي في رسم سياسات وأدوار الدول ضرب من التفكير المؤامراتي العربي، لكن الواقع أن هناك نظاماً دولياً لا يمكن أن يقبل إلا بالحكام والأنظمة والدول التي تسير تحت لوائه، والويل كل الويل لمن يحاول اللعب بذيله ويتمرد على إرادة القوى المهيمنة. وكل من يرفض أن ينفذ التوجيهات الكبرى معروف مصيره، ولا داعي لذكر الأسماء.
وقد يتساءل البعض، وهل يُعقل أن النظام الدولي يقبل بأن تكون أنظمة ديكتاتورية فاشية دموية قمعية جزءاً من ذلك النظام، وخاصة بعض الأنظمة العربية البائسة والمتخلفة والوحشية؟
ليس هناك فرق بين الأنظمة التابعة ومسلوبة الإرادة سوى الأسماء فقط، فهذا يسمي نظامه قومياً، وذاك يعطيه صبغة إسلامية، وآخر وطنية أو عسكرية أو أمنية، لكن في الحقيقة هم جميعاً نسخة واحدة
الجواب على ذلك بالطبع نعم، ولو نظرتم حولكم لوجدتم الكثير من تلك الأنظمة التي تتدثر برداء قومي أو وطني أو ديني أو عسكري، لكنها في واقع الأمر ليست سوى أدوات رخيصة محمية من النظام الدولي مهما فعلت واقترفت من جرائم وموبقات، ناهيك عن أنها تلعب أدواراً محددة برضاها أو رغماً عنها. وكل من يحاول أن يخرج عن السرب فمصيره معروف، وقد شاهدنا ماذا حصل لبعض الأنظمة والحكام العرب وغير العرب عندما انتهى دورهم، أو بدأوا يتململون رفضاً للأدوار والسياسات المفروضة عليهم. وقد ذكر الرئيس التونسي الأسبق الدكتور منصف المرزوقي في كتابه الشهير «الاستقلال الثاني» أن العرب لم يستقلوا أبداً بعد خروج المستعمر وما يسمى بحروب الاستقلال، بل إن المستعمر خرج بالاسم فقط وترك وراءه وكلاءه وكلابه لينوبوا عنه في حكم بلادنا ونهب ثرواتها والعبث بها. لهذا نحن في حاجة لاستقلال ثاني حسب المرزوقي لنتخلص من أدوات المستعمر ولنشق طريقنا ونقرر مصيرنا وتوجهنا السياسي والأيديولوجي بأنفسنا بعيداً عن الإملاءات والتعليمات الخارجية. وهذا يعني أن كل ما نراه من أنظمة وطنية مزعومة مجرد ضحك على الذقون. أما عن توجهاتها السياسية والأيديولوجية، فهي عبارة عن واجهات فقط ولا تمثل مطلقاً حقيقة تلك الأنظمة.
ليس هناك فرق بين الأنظمة التابعة ومسلوبة الإرادة سوى الأسماء فقط، فهذا يسمي نظامه قومياً، وذاك يعطيه صبغة إسلامية، وآخر وطنية أو عسكرية أو أمنية، لكن في الحقيقة هم جميعاً نسخة واحدة بأسماء وصفات مزيفة. لا فرق بين النظام القومي والديني مثلاً إلا بالاسم فقط، لأن النظامين في نهاية النهار يؤديان مهمة واحدة لصالح الخارج. وقد اعترف بعض الزعماء عندما اتهمتهم الصحافة الغربية بأنهم يقودون أنظمة إرهابية أو أصولية دينية أو عسكرية، بأنهم بريئون من تلك الأنظمة براءة الذئب من دم يوسف، وبأن قوى كبرى هي من فرضت عليهم صناعة أنظمة ديكتاتورية أو دينية أو طائفية أو عسكرية خدمة لمشاريع خارجية لا ناقة للعرب فيها لا ناقة ولا جمل.
دعكم من التسميات السياسية لهذا النظام أو ذاك، فهي لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، فضباع العالم قادرون أن يفرضوا على وكلائهم وأدواتهم أن يغيروا مساراتهم وطبيعة أنظمتهم مائة وثمانين درجة حسب الطلب خدمة للمشاريع الخارجية. كل نظام يلعب دوره حسب مصلحة الضباع الكبار في مرحلة معينة حتى لو لم يكن مقتنعاً به مطلقاً. لهذا لا تتفاجأوا أبداً إذا وجدتم أن الذي كان يرعى الذئاب ذات يوم قد انتقل لرعي الغزلان وتربية الصيصان حسب مصلحة المرشد الأعلى.
كاتب واعلامي سوري
[email protected]