الأمّ مؤسسة لغوية

حين نتكلم اليوم عن لساننا الأصلي نسميه «اللسان الأم»، على الرغم من أن اللسان في العربية مذكر إلا أن الترجمة تترك له صفة الأمومة لحكمة ما يجهلها المترجمون. لا يوجد لسان أب ولم أقرأ هذه العبارة إلا في استعارة رمزية لرولان بارت في كتابه «إمبراطورية العلامات» يعني بها اللسان المتسلط وربما الاستعماري الذي نرثه عن آبائنا ونرث معه ثقافة أبوية، تجعل الغربي صلفا أكثر من اللازم بالنسبة إلى شرقٍ أقصى أو أدنى لا يهم. يريد الغرب المعمر لو تحمل منه كل الألسن الأخرى حملا تضع بعد حملها ألسنة هجينة مثل البدجين Pidgins والكريول Creoles. ألسنة معجمها من بلد ونحوها من آخر.
علاقة الأم بمؤسسة اللسان علاقة قديمة داخل الأسرة أو القبيلة، فهي معلم اللسان الأول وناقل الثقافة للأطفال، وهذه مهمة هي جزء من إعداد الناشئة والسهر على تربيتهم، ما يمكن أن يعاب على الوظيفيين من اللسانيين أنهم أوهموا الناس أن قيمة اللسان بمستوياته المختلفة في وظائفه. اللسان اجتماعيا وثقافيا مؤسسة كاملة الشروط، وتعامل العرب القدامى في الجاهلية مع هذا اللسان باعتباره مؤسسة، ولما جاء الإسلام كرّس أيضا اعتبار اللسان مؤسسة. كان اللسان في الجاهلية مؤسسة قبلية تتمظهر في شكل تحقق لهجي له تحققات ثقافية وصار في الإسلام مؤسسة عقدية إبان الدعوة، ثم عقدية سياسية وإدارية في عصر الخلافة ومؤسساتها.
كان اللسان في عصر ما قبل الإسلام مؤسسة قبلية، بمعنى أنه كان يمثل نظاما من القواعد والوظائف والسلوكات المرتبطة بكثير من أنشطة القبيلة، وكان للأم أو لمن يحل محلها من النساء، أو يساعدها الدور المقنن داخل إطار هذه المؤسسة هو دور المعلم الأكبر للسان والحارس الفعلي له. فعلى سبيل المثال فإن تعليم الطفل اللغةَ يمر عن طريق الأم، وهذا الدور ما تزال الأم إلى اليوم تضطلع به، وإن كان بشكل مختلف. الأم تعلم الطفل اللغة وهو يرضع وهو يحبو وهو يأكل من يدها، فهي تقرن بين النشاط والعبارات التي تلائم ذلك النشاط. هي لا تعلمه عبارات هي تعلمه أيضا كيف يستعملها في سياقات مختلفة، هي إذن لا تعلمه معجما، بل هي تبني له تصورا للكون من خلال تلك الأشياء. وهي لا تعلمه لسانا بل تعلمه منظومة قيمية كاملة. ستعلمه كلمات مرتبطة بالعاطفة ومرتبطة بالوجدان ومرتبطة بعقيدة القبيلة، أي كل ما تؤمن به من رباطات عصبية وسنن وعادات وتقاليد وغيرها. ما من أم إلا وهي معلمة طفلها كيف ينادي أباه، لكن أن ينادي الجاهلي أباه ليس كما ينادي طفل اليوم أباه. في ذلك السياق كان الوالد يحمل كناية ولده الذكر بكر أولاده، لكنه لم يكن يناديه بهذه الكنية إلا فئة معلومة من الناس ليس فيهم الأبناء للأبناء طريقة في مناداتهم تكرس المهابة والهرمية التي في القبيلة، تكرسها داخل الأسرة.
لا يتعلم الطفل من أمه العبارات ولا الأسماء إنه يتعلم منها أيضا انطباعا عالقا بتلك الأسماء. لا نعتقد أن اسم ماء الذي تعلمه امرأة تنتمي إلى ثقافة الصحراء هو نفسه اسم ماء، الذي تعلمه امرأة تنتمي إلى ثقافة فيها فيض من الماء. الماءُ اسم صحراوي للماء الأروبي هذا صحيح، لكنه في ثقافة الصحراء عزيز يبحث عنه ولا يفرط فيه، وحين يشربه الطفل لن يشربه في آنية سيشربه ربما في العين حين يكون مع أمه، أو من قِرْبة من جلد الماعز أو من غيره من الأواني المتداولة في البيت لحفظة أو لشربه. في هذه الثقافة يقترن الماء بقيمة في هذه الثقافة، ولا يقترن بها في أخرى، وعلى الأم أن تعلم ولدها تلك القيم المرتبطة بالماء. العيش في ثقافة الصحراء يجعل للماء قيما منها ما يرتبط بالطبيعة، ومنها ما يرتبط بالسماء ومنها ما يرتبط بالتجربة الاستعارية سيعرف الطفل أن ماء العين حين تبكي أمه، ليس ماء، بل هو دمع، ولن يكتشف العلاقة بين الماء والدمع إلا بالسؤال، فالاستعارة ليست مجانية في إدراكها، فعلى المعلم أن يعرف العلاقة ويشرحها. الماء في أماكن الجفاف والكفاف يميل إلى القداسة، والماء في أماكن الفيض يميل إلى العقاب فحين يفيض المكان في الصحراء (لو جازت العبارة) سيكون ذلك احتفالا ولكنه يكون لعنة في أماكن تنزعج من فيض الماء المتكرر.
اللغة مؤسسة تعني هنا أنها لا تعلم خارج سياقاتها وقوانينها وأعرافها التي تتجاوز دلالاتها، لذلك يكون الغراب لمن تعلم اسمه مقترنا في الثقافة التي تتطير منه بالطيرة وكثير من الحيوانات التي تعلم الأم اسمها لطفلها تسري رموزها إليه مع اسمها. ليس من دور الأب أن يعلم اللغة دوره أن يعلم ما جاوزها، أن يعلم كيف تتواصل صورته: صورة الرجل على وجه الأرض؛ أما الأم فتعلمه كيف يحافظ عبر اللغة على ثقافة بأكملها. يلازم الطفل أمه في مراحل اضطرارية قبل أن يتركها من أجل الإغارة أو التجارة أو الحرب، إن كان ذكرا، وإن كان أنثى فمن أجل الزواج أو السبي في حال النكبة، لكن هناك مرحلة من الملازمة هي التي تنقل فيها المعطيات عبر الأم المعلمة. هناك نواة مكررة ومشتركة يتعلمها الطفل ويتعلق بمكونات ما يحيط به. أصعب ما يتعلمه المرء هي الوظائف وظائف أنفه ووظائف فمه وهي وظائف عضوية، ولكن أيضا الأدوار التي لأجلها جعلت الأشياء وجعلت الأشخاص. تظل المفاهيم المعقدة كذلك إلى أن يقدر العقل على تجريدها هنا تصبح الأم معلمة تبسط المعاني بالتمثيل مثلا.
الأم الشاعرة هي في الثقافة القديمة أم من معلمة من درجة ثانية، لأنها وهي تنظم الشعر وتعلمه غيرها تنقل بنية ثقافية مخصوصة إلى من تعاملت معه. تعليم الشعر يعني تعليم بنية مجردة تنظم على سمتها أقوال وتبنى عليها المعاني. لنفترض أن الخنساء أم تعلم أولادها القول والنظم، هم سيتعلمون كيف يقال الكلام ولكن أيضا يتعلمون كيف تبنى المواضيع الشعرية. لا يحتاج من يتعلم لغة قوم أن يتعلم قولهم الشعري، بل إن المرأة الشاعرة هي جزء من نقل الشعر لا بالرواية مثلما يفعل مجتمع الرجال، بل بالهواية وليس من اليسير أن يتغافل طفل عن هواية الوالدة.
نقرأ عن الخنساء أنها كانت ترثي صخرا، حتى لكأنها لم تولد إلا لتفعل ذلك، لكن الخنساء التي نقلت لنا صورة أخيها الميت هي ولا شك قد ساهمت في نحت شيء فيه بالتعليم. الأخت يمكن أن تكون معلمة جيدة، وكذلك البنت والزوجة. تعلم المرأة زوجها دائما أنه غير منضبط لسنن معينة لا يتّبعها، هي سنن من الممكن أن تكون بائدة لكنها دائما ما كون موضوع تعليم.
أخيرا فإن بعض الثقافات تودع في الأم ودائع لغوية، ربما كانت هي آخر من يحملها فأنا على سبيل المثال حفظت عن جدتي عبارات لم أسمعها من غيرها ولم أتعلمها منهم، وحين نجتمع أنا وأقاربي ممن تلقينا هذه العبارات دائما ما يشدنا سؤال يشبه سؤال نزار قباني: من أين كانت تأتي بالغرابة كلها؟ لم أسمع جدي يقول الكلمات نفسها، هو كان يعرفها غير أنه لا يروج لها. هناك شي مهم في تعليم الأم المعلمة للسان لا تتقنه إلا هي، أن تعلم وهي تزاول نشاطها؛ هي تمارس على من تعلمه ما يسمى في تعليم اللغات الأجنبية بطريقة الانغماس الثقافي: يحمل من لا يتكلم لغة إلى الحياة اليومية ويلقى به هناك ولن يكون له من حل غير السباحة في مياه اللغة الغريبة وما عليه إلا أن ينجو. الانغماس الذي تمارسه الأم المعلمة للسان الأم هو أنها تكون هناك مجربة الكلام بعبارات ملفوفة في ثياب من الثقافة لا يمكن فصلها عنها ولا تعريتها عنها، ويلقى المتعلم الصغير في يم من الثفافة الشاملة التي لا يعرف منها غير شيء وحيد: وجه أمه وهي تتكلم.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية