قدمت الحكومة الأردنية مشروع قانون مقترح للجرائم الإلكترونية، يضع عقوبات غير مسبوقة تؤدي إلى الحبس وغرامات مالية تصل إلى خمسين ألف دينار، لنشر أو إعادة نشر مواد على وسائل الاتصال الاجتماعي الإلكترونية «تنطوي على أخبار كاذبة، أو ذم أو تحقير أي شخص». كما تستطيع النيابة العامة ملاحقة من يقوم بذلك دون تقديم شكوى من المتضرر، إذا كانت هذه «الجرائم» موجهة إلى «إحدى السلطات في الدولة أو الهيئات الرسمية، أو الإدارات العامة، أو أحد أعضائها، أو إلى أي موظف عام أثناء القيام بوظيفته». وقد سبب هذا القانون ردة فعل غاضبة في أوساط الأحزاب والمجتمع المدني، التي ترى فيه محاولة إضافية لتقييد حرية الرأي، باستخدام تعابير فضفاضة مثل «اغتيال الشخصية» ووضع عقوبات صارمة لم يعهدها المجتمع، ولا تقدر عليها الأغلبية الساحقة، التي قد لا تجرؤ بعد اليوم على ممارسة حقها الدستوري في حرية الرأي، دون تقييد هذا الحق بقوانين فضفاضة قد لا تفرق بين النقد والتجريح.
المفترض في أية قوانين جديدة تسنها الدولة أن يكون عمادها تحرير الفضاء العام للناس وليس تكبيله، والمفترض أيضا أن تكون أذرع السلطة التنفيذية كافة منسجمة مع الروح الجديدة
ورغم المعارضة الواسعة للقانون، أعطته الحكومة صفة الاستعجال، وهو عند مجلس النواب اليوم، ما يعني إمكانية إقراره خلال فترة وجيزة، دون أن يأخذ حقه من التمحيص النيابي والشعبي، ما يتنافى في ظاهره مع رغبة الدولة المعلنة بالانفتاح السياسي وولوج مرحلة جديدة تقود الأردن نحو حياة حزبية نيابية حقيقية.
لا يتعلق الموضوع بضرورة وضع الضوابط التي تحمي أمورا مثل الحياة الخاصة للمواطنين، والتجريح الذي يعاني العديد منه، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، فما من فئة من المواطنين تعارض ذلك. تكمن المشكلة في أن مثل هذه القوانين تستخدم وجود مشكلة بحاجة لحل، لتذهب أبعد من ذلك بكثير، بما يؤدي إلى تقييد حرية الرأي بشكل يتجاوز المشكلة، ويخلق معضلات أخرى تساهم في تعزيز هيمنة السلطة التنفيذية على الفضاء العام وصناعة القرار، وتكميم الأفواه المخالفة للرأي. المعضلة الكبرى في الأردن اليوم هي في «تناقض رسائل» الدولة، فقد وجه الملك الحكومة قبل عامين للمضي قدما في عملية تحديث سياسي واقتصادي وإداري، وطلب من أذرع السلطة التنفيذية كافة السير بشكل متواز لتحقيق ذلك، وعدم التدخل في مسيرة التحديث السياسي. وكان أن نتجت عن ذلك التوجه في المجال السياسي قوانين جديدة للانتخابات والأحزاب من المفترض أن تنقل الأردن لحياة حزبية نيابية جادة خلال العشر سنوات المقبلة. ورغم العديد من التحفظات على الكيفية التي سارت فيها عملية التحديث هذه، فقد شاء العديد، وأنا منهم، عدم انتقاد الجزئيات طالما بقيت الصورة الكلية واضحة من حيث انتقال الأردن سياسيا نحو التعددية الحزبية، وما يرافق ذلك من حرية الرأي، واقتصاديا نحو الاعتماد على الذات، وتعظيم الكفاءة والإنتاجية على الريعية والواسطة، وإداريا نحو ترشيق الجهاز الحكومي ورفع كفاءته. كيف يستقيم كل ذلك مع ما نشهده اليوم؟
عملية الانتقال نحو أردن حداثي لا يمكن اختزالها بتحديث قوانين الانتخابات والأحزاب، دون أن تبث روح التغيير في أذرع السلطة التنفيذية كافة. فالمفترض في أية قوانين جديدة تسنها الدولة أن يكون عمادها تحرير الفضاء العام للناس وليس تكبيله، والمفترض أيضا أن تكون أذرع السلطة التنفيذية كافة منسجمة مع الروح الجديدة، فهل الحال كذلك؟ واقع الحال في البلاد اليوم يشير وبوضوح إلى أن العقلية الأمنية التي تحكم عملية صنع القرار لم تتغير بتغير قوانين الانتخاب والاحزاب، وليس هناك ما يشعر المواطن بأية انفراجات في هذا المجال، كما لا يشعر المواطن بجهد جاد للانتقال من الريعية للإنتاجية، ومن نظم تربوية استنفدت، لنظم تهيئ النشء للإبداع والإنتاجية، ومن قطاع عام مترهل إلى إدارة رشيقة قادرة على التعامل مع اقتصاديات الإنتاج والمعرفة. هل يقال لنا إن علينا أن نكتفي بما تم من تغيير للقوانين لم يرافقه تغيير للعقلية؟ لا يستطيع الأردن المضي قدما في سياسة «تناقض الرسائل» ولا يمكن لهذه السياسة أن تنجح أو تقنع الناس اننا ماضون «دون هوادة وبلا تراجع» لسياسات تحقق الانفراج المطلوب سياسيا واقتصاديا وإداريا. حان الوقت أن تتحدث السلطة التنفيذية بنغمة واحدة. إن كانت للحكومة أسبابها وراء هذا القانون أو غيره، فإن روح التحديث الجديدة تفترض أن تشرح الحكومة للناس بإسهاب أسبابها الموجبة وراء القانون، وأن لا تستعجل إقرار القانون قبل أن يأخذ حقه من النقاش، فالتواصل مع الناس يفترض أن يكون جزءا رئيسيا من الروح الجديدة التي من المفترض أنها تسود السلطة التنفيذية، بغير ذلك، فإن مجرد تغيير بعض القوانين مع بقاء العقلية القديمة لإدارة الدولة لن تنجح في تحقيق الإصلاح المنشود، أو في إقناع الناس أننا على أبواب مرحلة جديدة.
كاتب أردني