رغم الضجيج الذي أحدثته تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن، والتحذير الذي قال إنه وجهه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، بضرورة التمهل في إقرار تعديل النظام القضائي، حتى يتم ذلك على قاعدة أوسع إجماع سياسي ممكن، فقد نجحت خطة نتنياهو في تمرير الجزء الأول من القانون في الكنيست. ولتأكيد قوة موقفه، فإن الاستعدادات لجلسة التصويت شهدت «مسرحية سياسية» حيث اقترح بتسئليل سموتريش وزير المالية، زعيم الحزب الصهيوني الديني، تأجيل التصويت على القانون لمدة 6 أشهر على الأقل لمحاولة تحقيق إجماع، وهو ما يلتقي مع اقتراح بايدن، لكن الاقتراح وجد معارضة قوية، ولم يحصل على أي تأييد، وهو ما ظهر في تصويت كل نواب الائتلاف الحاكم (64) بلا استثناء لصالح القانون. تمرير القانون يضع إدارة بايدن في صدام مباشر مع حكومة نتنياهو، ويضع إسرائيل على شفا حرب أهلية، حيث يهدد اتحاد العمال «الهستدروت» بالقيام بإضراب شامل، وهدد القطاع الصحي بالتوقف عن العمل، وقرر آلاف العسكريين من قوات الاحتياط إنهاء خدمتهم، وهبطت قيمة الشيكل بنسبة 8 في المئة، وأعلنت عشرات الشركات أنها بصدد نقل مقراتها من إسرائيل، وسحب أموالها من البنوك الإسرائيلية.
الصدام مع أمريكا
وكنت في الرابع من الشهر الحالي، قد كتبت في هذه الصحيفة مقالا بعنوان «الدولة.. والقنبلة.. والصدام الإسرائيلي – الأمريكي المقبل» قلت فيه إن هذا الصدام سيكون الاختبار الأصعب والأسوأ من كل الاختبارات السابقة للعلاقات بين الدولتين، منذ منتصف القرن الماضي. وأرجعت الصدام المتوقع إلى الخلافات الحادة بين الطرفين، في ما يتعلق بمسألتين هما: إقامة دولة فلسطينية، والقنبلة النووية الإيرانية. ولم أشر إلى مسألة الخلاف بين إدارة الرئيس بايدن وحكومة اليمين الديني الصهيوني المتطرف، بشأن تعديل النظام القضائي، معتقدا أن بايدن لن يغامر بأن يزج بإدارته في خلاف بين اليهود أنفسهم، داخل وخارج إسرائيل بشأن «الديمقراطية اليهودية».
الخلافات السياسية بشأن سلطات القضاء، تعكس انقساما عميقا بشأن الحق التاريخي لليهود في كل أرض فلسطين، ومسألة إمكانية التعايش بين اليهود وغيرهم
وما زلت أرى أن موضوع «الديمقراطية اليهودية» ورقة خاسرة، أقحم بايدن نفسه فيها، معتقدا إنها قد تصبح ورقة رابحة، مع تزايد غضب تيار «الصهيونية السياسية» ضد التعديلات القضائية التي يتبناها تيار «الصهيونية الدينية». وهذا من وجهة نظري اعتقاد خاطئ، لأن محور القوة السياسية في إسرائيل قد انتقل منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، من اليسار والوسط إلى اليمين السياسي واليمين الصهيوني الديني المتطرف. وفي هذا السياق فإن الخلافات السياسية بشأن سلطات القضاء، تعكس انقساما عميقا بشأن الحق التاريخي لليهود في كل أرض فلسطين، ومسألة إمكانية التعايش بين اليهود وغيرهم في الدولة اليهودية، وغضب التيار الصهيوني الديني المتطرف من أحكام أصدرتها المحكمة العليا، بشأن إعادة بعض أملاك الفلسطينيين الخاصة، ومن أهمها قضية مستوطنة «حومش» التي قرر الائتلاف الحالي إعادة بنائها، رغم حكم المحكمة العليا، وكذلك حكم المحكمة بوقف قرار نتنياهو تعيين آرييه درعي وزيرا في الحكومة الحالية. ومن ثم فإن تعديل النظام القضائي في إسرائيل لا علاقة له بالقيم الديمقراطية الليبرالية، وإنما هو يرتبط عضويا بمفهوم «الصهيونية الدينية» عن الحق المطلق لليهود في الوجود والاستيطان في كل أرض فلسطين التاريخية. وقد أصبح هذا المفهوم عنوان السياسة الرسمية للحكومة الحالية.
حصانة الحكومة أمام القضاء
قانون تعديل النظام القضائي في إسرائيل، يعني عمليا تعديل «القانون الأساسي للدولة» أي الدستور، ويضع «العلاقات الخاصة» بين واشنطن وتل أبيب أمام اختبار تاريخي، من وجهة نظر البيت الأبيض. القانون الذي تم تمرير الجزء الأول منه في الكنيست بسهولة يوم الاثنين الماضي (64 صوتا ضد 56) يضع السلطة التنفيذية (والتشريعية) فوق السلطة القضائية، وينهي عمليا مبدأ الفصل بين السلطات، ويؤدي لقيام «ديكتاتورية بالقانون» ويمنح قرارات رئيس الوزراء والوزراء حصانة أمام المحكمة العليا، كما يمنح الحكومة والكنيست الكلمة الأخيرة في تعيين القضاة. وتعتبر الإدارة الأمريكية أن إقراره ينسف أساس «العلاقات الخاصة» التي تربط بين البلدين، ويقول الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، إن «القيم الديمقراطية» تمثل قلب «العلاقات الخاصة» ودونها، فإنها تصبح مهددة، وتفقد أساس استمرارها، لكن بايدن في حقيقة الأمر سوف يجد أن الدخول في تحدٍ مع قانون تقره الأغلبية في الكنيست، ليس في مصلحته، خصوصا وأن عام الانتخابات الرئاسية يقترب. وقد وصف بيتر ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي يعتبر عميد خبراء سياسات الشرق الأوسط في أمريكا، هذا الخلاف بأنه «خلاف داخل عائلة واحدة». في حين أن بايدن نفسه اعتبره «خلافا بين أصدقاء». وسواء أخذنا بوصف بايدن أو ساتلوف، فإن الولايات المتحدة لن تضحي بأقرب صديق لها في العالم من أجل قانون يقره الكنيست بخصوص شأن داخلي، لأن ذلك يتناقض مع منطق بايدن نفسه بشأن الدفاع عن «القيم الديمقراطية». ويجب أن نلاحظ هنا أن بايدن عندما يذكر «القيم الديمقراطية» في إسرائيل فإنه يقصد «الديمقراطية الصهيونية» وهي ديمقراطية تنطوي في جوهرها على التمييز ضد غير اليهود، مثل المسيحيين والمسلمين، سواء كانوا عربا أو ينتمون إلى قوميات وأجناس أخرى. وعندما يتحدث بايدن عن «العلاقات الخاصة» فإنه يقصد ما يتعين على الولايات المتحدة أن تفعله لصالح إسرائيل، ولا تفعله مع غيرها في مواقف مشابهة، في ضمان أمنها وتفوقها على جيرانها، وإمدادها بالسلاح والتأييد الدبلوماسي، بما في ذلك استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن، لضمان استمرار سياساتها التوسعية العدوانية، وتحصينها ضد القرارات الدولية.
رسائل بايدن ونتنياهو المتناقضة
خلال فترة قصيرة تقل عن أسبوعين منذ الأحد 9 إلى الإثنين 24 من الشهر الحالي، شهدت العلاقات الإسرائيلية – الأمريكية تطورات درامية، تشير إلى أزمة سياسية، سوف يؤثر استمرارها، في مستقبل إسرائيل، وطبيعة العلاقات بين الدولتين. كما سجلت تلك التطورات وجود فالق سياسي عميق، يفصل بين الحكومة الإسرائيلية الحالية والإدارة الأمريكية. فمن ناحية نجد أن بنيامين نتنياهو وزمرته من قيادات «الحزب الصهيوني الديني» بقيادة بتسئليل سموتريتش وحزب «العزيمة اليهودية» بقيادة إيتمار بن غفير يهاجمون بايدن مستخدمين منطقهم «الديمقراطي» باعتبار أن الديمقراطية هي سيادة «صندوق الانتخابات» وأن أصحاب الأغلبية في الكنيست، الذين يشكلون الحكومة، من حقهم تحصين قراراتهم ضد الهيئات القضائية، باعتبارها مؤسسات غير منتخبة، كما أضافوا إلى هجومهم على خصومهم سلاحا آخر؛ باتهام العسكريين الذين وقعوا وثيقة تطالب بوقف التعديلات القضائية، بأنهم يحاولون اختطاف الدولة، واغتيال الديمقراطية، وأنه لا ديمقراطية تحت تهديد من يحملون السلاح، بل إنهم اتهموا العسكريين بإهمال واجباتهم، بالانصراف للمشاركة في السياسة والتهديد بالامتناع عن الخدمة العسكرية، وهو ما يهدد الأمن القومي للبلاد. وقد شن بايدن هجوما لاذعا على حكومة «نتنياهو- سموتريتش- بن غفير» يوم الأحد 9 يوليو، في حوار مع «سي أن أن» أجراه معه فريد زكريا، ووصفها بأنها أشد الحكومات الإسرائيلية تطرفا في السنوات الخمسين الأخيرة، وأن عددا من رموزها هم «سبب المشاكل» التي تهدد العلاقات الخاصة بين البلدين. وقد رد عليه إيتمار بن غفير بأن إسرائيل ليست نجمة من نجوم العلم الأمريكي، أي أنها دولة مستقلة، ثم هدأت الأمور بين الجانبين، بعد أن بادر بايدن بإجراء محادثة هاتفية مع نتنياهو يوم 17 من الشهر الحالي، وصفها مكتب الأخير بأنها كانت «طويلة، ودية، وبناءة». كما استضاف في واشنطن رئيس الدولة الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، لتأكيد أن الولايات المتحدة تقف قلبا وقالبا مع إسرائيل، وأن الخلافات بينهما هي مجرد «خلافات بين أصدقاء» وأن التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل لا يتزعزع. وعلى الرغم من ذلك، فإن الائتلاف الحاكم نجح في تمرير القانون، واكتفى البيت الأبيض بإصدار بيان يكرر فيه الدعوة إلى العمل على «تحقيق أوسع إجماع ممكن» بشأن تعديل النظام القضائي. ووصف البيان تصويت الكنيست بأنه تطور «مؤسف» لأن الحكومة فازت بأقل أغلبية ممكنة. تمرير القانون يضع بايدن في موقف سياسي صعب، خصوصا مع وجود أصوات في الولايات المتحدة تدعو إلى تهديد نتنياهو بوقف «العلاقات الخاصة» ومطالبة إسرائيل برد قيمة المساعدات العسكرية التي تحصل عليها، إلا إنه ليس من المتوقع أن يسير بايدن على طريق التصعيد وفرض تكلفة على حكومة نتنياهو، بل على العكس، ربما يلجأ إلى إرسال مسؤولين مرموقين مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أو مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، أو مدير المخابرات المركزية وليم بيريز، لمحاولة التهدئة وترميم جسور العلاقات بين البلدين. المتغير الآخر الذي يمكن أن يؤثر في الموقف، هو مدى قوة الاحتجاجات ضد القانون في داخل إسرائيل؛ فإسقاط حكومة نتنياهو بجعلها «غير قادرة على الحكم» يمكن أن يعيد بايدن إلى عجلة القيادة للعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية.
كاتب مصري