في الرابع والعشرين من شهر تموز الجاري اكتمل قرن كامل على توقيع معاهدة لوزان بين تركيا والدول العظمى، بعد مفاوضات طويلة انتهت باعتراف موثق من «المجتمع الدولي» آنذاك بالدولة التركية الوليدة من ركام الإمبراطورية العثمانية. ويميز المفكر باسكن أوران بين ولادة الدولة التركية الحديثة في التاريخ المذكور، وتأسيس «الجمهورية التركية» كنظام سياسي في أواخر تشرين الأول من العام ذاته، معتبراً الموعد الأول أهم من الثاني مع أن الدولة لا تحتفل بهذه المناسبة بخلاف احتفالها بتأسيس الجمهورية.
غير أن شبح معاهدة لوزان يطل برأسه في السجالات العامة، بين حين وآخر، بسبب الحمولة الأيديولوجية في الموقف منها، فيهاجمها التياران القومي والإسلامي لأنها «كبّلت يدي تركيا» باشتراطات فرضتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، كما يقول الناطقون باسم التيارين، في حين يدافع عنها العلمانيون بوصفها «سند تأسيس الدولة التركية الحديثة» فاعترفت بسيادتها ووحدة أراضيها وحدودها، بعدما هُزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وتفككت، وأرادت الدول العظمى فرض معاهدة سيفر عليها في العام 1920.
ولكن فيما وراء هذه الحجج الظاهرة تعتمل حساسيتان متعارضتان يحتمل أنهما السبب الحقيقي وراء هذا الاختلاف في المواقف. إذ يرى العلمانيون أن السبب «الحقيقي» وراء هجوم الإسلاميين على معاهدة لوزان هو إلغاء مؤسس الجمهورية مصطفى كمال لمؤسسة الخلافة التي كان يشغلها السلطان العثماني، إضافة إلى إجراءاته القمعية تجاه الطرق والجماعات الإسلامية، وفرضه لقانون مدني ولمبدأ علمانية الدولة وغيرها من القوانين والإجراءات التي أبعدت تركيا عن عمقها الحضاري الإسلامي وقطعت مع تراثها الثقافي. وفي رأي العلمانيين أن هجوم التيار الإسلامي على لوزان هو مجرد ذريعة للهجوم المبطن على أتاتورك وخليفته عصمت إينونو الذي رأسَ الوفد التركي إلى اجتماعات لوزان.
شبح معاهدة لوزان يطل برأسه في السجالات العامة، بين حين وآخر، بسبب الحمولة الأيديولوجية في الموقف منها، فيهاجمها التياران القومي والإسلامي لأنها “كبّلت يدي تركيا” باشتراطات فرضتها الدول المنتصرة
غير أن السلطة استثمرت في «شبح لوزان» لإطلاق بشائر كبرى، طوال العام السابق على الانتخابات العامة والرئاسية، تترفع على «صغائر» الأزمة الاقتصادية أو الحريات العامة أو غيرها مما شكلت مفردات الحملة الانتخابية للمعارضة، تحت شعار غامض هو «القرن التركي». والمقصود بذلك، كما يمكن أن نفهم من تصريحات أركان الحكومة وحلفائها وكتاب صحافتها هو أن تركيا ستنطلق، مع العام 2023، نحو آفاق واسعة تضعها بين الدول الكبرى وتصبح كلمتها مسموعة في المحافل الدولية. ومن بشائر هذه الانطلاقة البدء بإنتاج أول سيارة محلية الصنع وتعمل على الطاقة الكهربائية، من قبل شركة TOGG؛ والبرنامج الفضائي التركي؛ واكتشاف حقل للغاز الطبيعي على شاطئ البحر الأسود، واكتشاف مكامن نفط في مناطق متاخمة للحدود العراقية… يضاف إلى ذلك المطالبة التركية بترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط الذي يدور فيه صراع حول مكامن الغاز الطبيعي مع الدول الأخرى شرقي المتوسط وما قامت به السفن الحربية من استعراضات قوة في السنوات الأخيرة، والتدخلات العسكرية التركية في العراق وسوريا وليبيا وأذربيجان، والتدخل في الحرب الأوكرانية من خلال بيع أوكرانيا طائرات من غير طيار محلية الصنع صنعت فارقاً في المعارك، أي ما يعبر عن دور تركي عابر للحدود الوطنية الضيقة…
كانت هذه من مفردات الحملة الانتخابية للرئيس أردوغان الذي وصفه إعلامه برجل الدولة في تقابل مع منافسه كمال كليتشدار أوغلو الذي كان الإعلام نفسه يسخر من رسائله المصورة التي كان يوجهها للجمهور من مطبخ بيته. رجل الدولة مقابل «رجل المطبخ» الذي يهتم فقط بالشؤون المعاشية للمواطنين في الوقت الذي بدأت فيه تركيا انطلاقتها كدولة كبيرة تنافس الدول العظمى. الفوز الصريح الذي حققه الرئيس أردوغان في صناديق الاقتراع قد يشير إلى أن الكلام الكبير عن تركيا كبيرة لاقى لدى جمهوره الصدى المأمول، فأبدى استعداده لتقديم التضحيات المطلوبة في سبيل الأهداف الكبرى، من خلال تحمل الصعوبات الاقتصادية من تضخم وبطالة وارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية.
يكمن أساس الربط بين هذه الأهداف الكبرى ومرور مئة عام على معاهدة لوزان في خرافة شائعة في الرأي العام التركي مفادها أن المعاهدة المذكورة محدودة زمنياً بمئة عام، تتحرر تركيا بانقضائها من القيود والشروط التي فرضتها عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. ومن الخرافات الشائعة أيضاً أن المعاهدة تضمنت بنوداً أو ملاحق سرية تمنع تركيا بموجبها من التنقيب عن ثرواتها الباطنية. مع العلم أنها تنقب عن النفط والغاز منذ سنوات، ولم يمنعها أحد من ذلك. بل إنها أعلنت، في إطار الحملة الانتخابية نفسها عن اكتشاف ثروات من النفط والغاز بنتيجة أعمال التنقيب.
الآن وقد انقضى قرن على المعاهدة، تناست وسائل الإعلام الموالية كل ذلك، في حين كان الرابع والعشرين من تموز فرصة للأقلام المعارضة للتذكير بتلك الشائعات حول المدى الزمني للمعاهدة وما نسب إليها من شروط سرية لم توجد قط، وللقول إن الشعارات الكبرى حول «القرن التركي» لن تشبع البطون الخاوية للطبقات الدنيا في المجتمع، ولم تحُل دون لجوء الحكومة لدول الخليج طلباً لقروض واستثمارات.
كاتب سوري