الجزائر ـ «القدس العربي»: تصدّرت ولاية بجاية الجزائرية أخبار النشرات هذه الأيام، بعد أن كانت الأكثر تضررا من موجة الحرائق التي عصفت بالمنطقة الشمالية الشرقية للبلاد، وأوقعت 34 قتيلا جلّهم حاصرتهم النيران في غابات الولاية المعروفة بجبالها الشاهقة الملاصقة للساحل الممتد لعشرات الكيلومترات.
لقد كان هذا الصيف استثناء، فعادة بجاية ألا تكون في هذا الوقت من السنة حزينة، فهي من أكثر الولايات استقطابا للسياح من كل مناطق البلاد ومن أبناء الجزائر في المهجر، ذلك أنها تكتنز من المواقع ما يجعل الزائر حيرانا أين يولي وجهته، ناحية الشواطئ العامرة أو الشلالات الهادرة أو تسلق الجبال والوصول إلى قمم ليست كالقمم فهي مزارات تروى عنها الحكايات والأساطير المدوّخة.
رغم الجرح الذي سببته الحرائق، إلا أن سكان بجاية سرعان ما كفكفوا الدموع حزنا على وفاة أحبتهم، وأعادوا فتح أذرعهم لاستقبال الزائرين. ذلك ما تنبئ به الحركة الكثيفة داخل المدينة، فمنذ أن أعلنت السلطات التحكم في الحرائق حتى دبّت الحياة من جديد في المواقع الكبرى التي يفد إليها السياح، واستعاد التجار والعاملون على نشاط السياحة أعمالهم ومصالحهم. أما الفنادق والمنتجعات، فالحجوزات فيها تكاد تكون مكتملة في هذه الأيام التي يتعاظم فيها الطلب على مدنها.
تاريخ عريق
ولهذه الولاية تاريخ عريق يمتد إلى كل العصور، كانت فيه دائما مركز إشعاع فكري وحضاري. والشائع أن من أسسها في شكلها الحديث هو الناصر بن علناس ابن حماد بن زيري أحد ملوك بني حماد بالجزائر في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، لذا تسمى أيضًا الناصرية نسبة إليه. وعرفت بجاية بأنها كانت ثاني عاصمة لدولة بني حماد التي ازدهرت في ذلك الوقت، وتحولت فيها إلى مدينة تشد الرحال إليها لطلب العلم. كما كان جهادها مقدمة لتحرير السواحل الجزائرية من الاحتلال الإسباني في القرن الرابع عشر عبر الاستعانة بالعثمانيين.
وفي فترة الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، كانت بجاية تابعة للولاية الثالثة التاريخية، وفيها انعقد في 20 اب/أغسطس 1956 مؤتمر الصومام الذي أعاد تنظيم الثورة التحريرية ومكّنها من مؤسسات وحكومة وقيادة للجيش، وفيه ترسّم دخول كامل المكونات السياسية في الجهاد المسلح ضد المستعمر تحت راية جبهة التحرير الوطني. وقتها، ومع اشتداد الحصار الاستعماري على الثورة، كان يبحث قادة الثورة عن مكان يجمعهم، فوقع اختيارهم على قرية إيفري التابعة لبلدية أوزلاقن، وفي بيت لا يزال قائما إلى اليوم في موقع على رأس جبل لا يمكن لقوات الاستعمار أن تكتشفه. تحول هذا البيت المتواضع اليوم إلى متحف أثري يروي قصة المؤتمر وما جرى فيه من نقاشات وحوارات، وعلى جداره توجد صورة للقادة الذين حضروا المؤتمر، بينهم العربي بن مهيدي وعبان رمضان وزيغوت يوسف وكريم بلقاسم والكولونيل عميروش وغيرهم.
وبعد الاستقلال كانت بجاية من مراكز الوعي السياسي حيث أنجبت العديد من المناضلين الذين أطروا مختلف الأحزاب السياسية، وبرزت في طليعة المدن التي تفجر فيها الربيع الأمازيغي سنة 1980 الذي كان يطالب بالاعتراف بالهوية الأمازيغية، وهو ما تكلل سنوات طويلة من بعد بإنشاء المحافظة السامية للأمازيغية وإدراج الأمازيغية لغة وطنية ثم رسمية في الدستور وترسيم «ناير» وهو رأس السنة الفلاحية القديمة عند الأمازيغ يوما وطنيا مدفوع الأجر.
أساطير «يما قورايا»
تقول الأسطورة إن لبجاية «حارسا» وهذا الحارس هو «يما قورايا» تلك القمة الشهيرة التي تهيمن على كامل خليج المدينة ويمكن من خلالها مراقبة السفن الداخلة. يقع جبل قورايا في قلب الحظيرة الوطنية التي تحمل نفس الاسم، ولا يمكن للسيارات والحافلات سوى الوصول لقاعدة الجبل قبل بدء مغامرة الصعود سيرا على الأقدام، في تحدّ ينجح فيه الكثيرون ويفشل فيه البعض. يجب التمتع بلياقة بدنية جيدة وقلب قادر على التحمل، يقول أحد المرشدين في المكان. وليس شرطا أن تكون صغيرا أو كبيرا في السن، فهنا من بنات بجاية اللواتي صرن عجائز مع الزمن، من يداومن أسبوعيا على صعود القمة، ولم يزدهن ذلك إلا صحة ونضارة يمكنك إبصارها في وجوههن التي تعكس عليها أشعة الشمس ألوان أزيائهن القبائلية المزركشة الجميلة.
بعد مسير يعادل الخمسة كيلومترات، في مسار متموج إلى الأعلى وسط غابات كثيفة وحواجز تنصبها قردة المكاك البربري للزوار على الطريق، يمكن لصاعد الجبل أن يرتاح، فهو قد وصل إلى القمة التي تبرز من علو 600 متر في شكل حصن قديم يتوسطه شبه بيت أو ضريح به بئر يقال إن على زائر القمة أن يشرب منه. هنا تروى الكثير من الروايات حول أصل وفصل يما قورايا هي أقرب للأساطير الشعبية منها للحقيقة التاريخية التي لا يوجد من المؤرخين من قدّم فيها إجابات حاسمة. البعض يقول إنها ولية صالحة تعود إلى الفترة المسيحية غداة الغزو الوندالي لبجاية في القرن الرابع ويستدلون بكون قورايا كلمة تعني باللغة الوندالية «الجبل الصغير». رواية أخرى تقول إن هذه السيدة جاءت مع الاستعمار الإسباني في بداية القرن الرابع عشر، ثم تحولت بعد أن اعتنقت الإسلام إلى مناهضة للاحتلال وساهمت في تحرير المدينة لتُسمّى حارسة بجاية.
شواطئ وشلالات
أما أكثر الروايات رومانسية، فتحكي عن يمّا قورايا «العاشقة» التي أحبت رجلا يسمى تيشي ورفض أهلها زواجها به، فلجأت إلى قمة الجبل لتقابل المكان الذي يسكنه. وإذا صحّت هذه الأسطورة، فإن تيشي اليوم مدينة تقابل بالفعل جبل قورايا وتبعد بنحو 20 كيلومترا، وبها أجمل شواطئ بجاية على الإطلاق، وهي أكثر مكان يقصده الباحثون عن البحر، حيث تكثر بها المنتجعات السياحية والفنادق وأماكن السهر على شاطئ البحر الممتد على طول المدينة.
ومن تيشي يمكن الصعود بالسيارة إلى مكان لا يقل سحرا هو شلالات كفريدة الواقعة في الطريق نحو خراطة المدينة الشهيدة في فترة الاستعمار الفرنسي. وهذه الشلالات تمتاز بأنها الأكبر في الجزائر، إذ ينهمر فيها الماء العذب انهمارا من علو شاهق، وقد تحولت مع الزمن إلى مقصد سياحي استثمر فيه أهالي المنطقة لتشييد محلات تبيع هدايا تذكارية للزائرين كما يوجد هناك مصور لا يمكن تفويت فرصة التوقف عنده، لأن المنظر الذي سيظهر في الصورة بديع ناهيك عن الألبسة التقليدية التي يختار بينها الزبون.
ومن يختار مغامرة أكثر حماسا، يمكنه تكبد عناء الوصول إلى شلالات تيزين بربر بأعالي جبال بجاية، وهي منطقة تمتاز بالبرك المائية العذبة التي يمكن السباحة فيها. وقد شيّد أهالي المنطقة، بمبادرة خاصة جسورا معلقة بإمكانات بسيطة، مكنت من تحويل المكان الذي لم يكن معروفا إلا للسكان إلى مزار سياحي انتشر التعريف به على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي.
الصناعة والمعادن
ليست بجاية ولاية سياحية فحسب، فجبالها أيضا تختزن معادن ثمينة تسعى السلطات حاليا لاستغلالها. وأبرز المناجم ذات الطابع الاستراتيجي، منجم وادي أميزور الواقع بحدود دائرتي تيشي وأميزور وبلديتي تالة حمزة وأميزور، وهو يمتد على مساحة قدرها 234 هكتارا مع احتياطات تقدر بـ 34 مليون طن لإنتاج سنوي قدره 169.000 طن من مكثف الزنك و30 ألف طن من الرصاص. وسيسمح المنجم الذي سيتم استغلاله بالشراكة مع الأستراليين، باستحداث 700 منصب عمل مباشر و4.000 منصب عمل غير مباشر، ويتوقع أن تبلغ إيراداته نحو 400 مليون دولار سنويا.
ومن المظاهر الصناعية المتطورة في الولاية، إنشاؤها مصنعا حديثا هو الأول في أفريقيا لإنتاج المادة الأولية التي يصنع بها زيت المائدة وهو منتوج حيوي للأمن الغذائي في البلاد. وبعد أن كانت الجزائر تستورد هذه المادة بالعملة الصعبة، أصبحت بفضل هذا المصنع مكتفية ذاتيا وقادرة على تصدير زيت المائدة لدول أفريقية وأوروبية. وتقدر طاقة معالجة هذا المركب بحوالي 22000 طن في اليوم من البذور الزيتية، منها 11000 طن من الصويا و6000 طن من عباد الشمس و 5000 طن من بذور السلجم الزيتي أو الكولزا.
ويتلاقى كل ذلك، مع تطوير البنية التحتية في الولاية التي تدعمت بمنفذ يربطها بالطريق السريع شرق غرب، مما يسهل انسيابية حركة السلع والبضائع بعد أن تحولت بجاية إلى ولاية رائدة في مجال الصناعات الغذائية. ويعد ميناء المدينة من أكثر الموانئ الجزائرية حركية، فهو مركز للتصدير والاستيراد للمواد البترولية والمنتجات الغذائية وغيرها. ويمكن مراقبة هذه الحركة بسهولة من قمم المدينة التي تطل مباشرة على الميناء، حيث لا تتوقف السفن عن شحن وتفريغ الحاويات، في وقت تسعى السلطات لتطوير الميناء وجعله من أقطاب صناعة السفن مستقبلا.