غواية قاتلة

حجم الخط
0

إنّ إسناد الرواية إلى مأساة حقيقية تشمل حدثا تاريخيا، أو كارثة طبيعية، أو جريمة أو حربا أو غيرها من المآسي، التي وقعت في الماضي، تُعطي بلا أدنى شك بعدا مهمًّا للقصّة، بدءا ببناء ذلك الرّابط العاطفي العميق مع القارئ، شرط أن يحمل المؤلّف مسؤولية أخلاقية عالية، مراعاة للحقائق التي يكتشفها خلال بحثه. فقد يكون للأحداث الفعلية عواقب وخيمة على المعنيين، لذا من المهم التعامل مع الموضوع باحترام وحساسية، وتجنب أي استخفاف أو استغلال لتلك المعاناة. يجوز للمؤلّف أن يجنح بمخيلته ما شاء، ليربط الأحداث ببعضها، لكن مع اتخاذ احتياطات بعدم تحريف الحقائق التاريخية، وتقديم معلومات مضلِّلة، أو المبالغة في التشهير بالمتورّطين لسبب شخصي.
باختصار، تأسيس رواية على مأساة حقيقية من أقوى الموضوعات التي تعمل على إنجاحها، شرط أن يكون كاتبها حريصا على جعلها عملا متوازنا، بين ما هو تاريخي واقعي وما هو جمالي فني. هذا بالضبط ما فعله كاي بيرد، ومارتن ج. شيروين، مؤلفا كتاب «بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة روبرت أوبنهايمر» الذي يروي قصّة روبرت أوبنهايمر الفيزيائي الأمريكي، الذي صنع مع فريقه القنبلة الذرية التي دمّرت هيروشيما وناكازاكي، وأنهت الحرب مع اليابان بانتصار أمريكي ساحق.
لم يكن سهلا فهم قاعدة البروفيسور أوبنهايمر ونظرته للعلم، حتى حين قال: «على العالم أن يبحث عن الحقيقة، وحين يجدها عليه أن يشرحها ويعلّمها، لكي تُفهم، لكن أحيانا هناك حقائق يجب عدم نشرها، لأنّ عواقب معرفتها وخيمة». وهذا كان على الأقل مختصر لقائه بالعالم ألبرت إينشتاين الذي قدّم له هذه النصيحة قبل انغماسه في أبحاثه لتصنيع القنبلة الذريّة، لكن «الخدعة السياسية» انطلت عليه، وذهب في تجاربه إلى النهاية، حيث وجد نفسه يرتدي عباءة برومثيوس، متذوّقا طعم البطولة القومية التي اخترعها البشر، قبل أن يتحوّل في نظر العالم بأسره إلى مجرم.
جمع المعلومات عن أوبنهايمر كان مهمّة صعبة جدا، إذ جمع شيروين ما يقارب الخمسين ألف وثيقة حكومية رُفِعت عنها السرية، والتقى عددا كبيرا من معارف الفيزيائي العظيم، من بينهم ابنه، لكنّه غرق في أكوام ما جمعه، ولم يستطع إنهاء الكتاب. عشرون سنة من البحث المضني أرهقته، فطلب مساعدة صديقه المؤرّخ كاي بيرد، الذي رسم له خطّة عمل وساعده في إنجاز الكتاب الذي صدر عام 2005 في 721 صفحة، وتُوّج بجائزة بولتزر عام 2006. الكتاب الذي ألهم المخرج البريطاني كريستوفر نولان، سريعا ما أخذ طريقه إلى أضواء السينما، لكنّ المحزن أن شيروين توفي قبل أن يرى منجزه العملاق يحقق نجاحا جديدا موقعا بأنامل هذا المخرج العبقري. طبعا لا يمكن مقارنة نجاح هذا الكتاب بنجاحات مماثلة، فالسينما العالمية تعجُّ بالأعمال التي اعتمدت على النتاج الأدبي بأنواعه لتسلّق قمم النجاح، لكن الكتب الناجحة لا تقوم على الموضوعات والتقنيات نفسها. لنذكر على سبيل المثال الثلاثية الخيالية للكاتب البريطاني جون رونالد تولكين، التي حوّلها المخرج النيوزيلندي بيتر جاكسون إلى ثلاثة أفلام لقيت نجاحا ساحقا. فهذا نوع وذاك نوع آخر، الكلام نفسه يُقال عن فيلم «صمت الحملان» الشهير، الذي بناه مخرجه جوناثان ديم على رواية توماس هاريس الصادرة عام 1988، التي نال بها جائزة أنطوني للأدب البوليسي في العام التالي، لكن المفاجأة الكبرى كانت الأوسكارات الخمس التي نالها الفيلم عام 1991، وهنا لا يمكن إنكار براعة المخرج وفريقه لتحقيق ذلك النجاح، لكن لو لم تحقّق الرواية شهرة معيّنة هل كانت ستجذب مخرجا دقيق النظرة مثل ديم ونجما بحجم أنطوني هوبكنز لتجسيدها كفيلم؟ لقد كانت ضربة معلّم حقًّا!
صحيح، تلعب المخيلة دورا مهمّا في نسج الأحداث وبناء صرْحٍ سردي متكامل وجميل، لكن ما قام به كلٌّ من شيروين وبيرد عملٌ جبّار، بحكم ارتباطه بأسرار خطيرة تكشف مدى خطورة أن يتوحّد عالم نابغة برجال حرب.
مثل هذا الكتاب يذكّرنا بكتب شهيرة هزّت العالم الغربي، مثل «بدم بارد» لترومان كابوت، الذي استعان بصديقة طفولته هاربر لي كاتبة رواية «أن تقتل طائرا بريئا» الشهيرة، للتحقيق في جريمة راحت ضحيتها عائلة مزارع ثري، جمع آلاف المعلومات، وظلّ ست سنوات يشتغل عليها ولم تصدر إلاّ بعد إلقاء القبض على منفذيْ الجريمة وإعدامهما. ومثله أيضا كتاب «الحياة الخالدة لهنريتا لاكس» لربيكا سكلوت المنشور سنة 2010 ويروي الكتاب القصّة الحقيقية لامرأة أمريكية من أصل افريقي تمّ استخدام خلاياها السرطانية، دون موافقتها لإجراء أبحاث طبية رائدة. أجرت المؤلّفة بحثا على مدى سنوات ومقابلات مع أفراد عائلة لاكس وباحثين وأطباء لكتابة هذه القصة المؤثرة والمهمّة. هذه القصة أيضا حوّلها المخرج جورج س. وولف لفيلم عام 2017. وقد لاقى استحسان النقّاد، مثيرا نقاشا أخلاقيا بشأن الأبحاث الطبية واللاعدالة في التعامل مع المرضى ذوي البشرة السوداء.
وحتى لا نذهب بعيدا بعرض مطوّل للكتب المشابهة لقصة «أوبنهايمر» علينا أن نشير فقط إلى أن نولان تجذبه الشخصيات المركّبة المتقلّبة، ذات المسار الحياتي الغريب والمختلف، ذات العمق النفسي والفكري معا. هي القصة التي جعلت بروميثيوس الأسطوري ينبعث من عصره إلى عصرنا الحالي، حيث نعيش أخطارا لا حصر لها بسبب التطورات العلمية الجبّارة التي وقعت في أيدي الأشرار والطيبين على السواء.
ينجرف العالم نحو حروب لا تنتهي، وهو اليوم أكثر من أي وقت مضى يقف على فوهة بركان، ولا أحد يعرف في ما كان نولان يفكّر حين اختار قصة «برومثيوس الأمريكي» موضوعا لفيلمه، لعلّه جنون الحرب التي تدقُّ طبولها بقوة مرعبة! وكلّما كانت الحرب أعنف، زاد هوس السباق لاختراع أسلحة أكثر فتكا من سابقتها. استمرار الحروب في أجزاء مختلفة من العالم، رغم استخدام المفاوضات الدبلوماسية، ومعاهدات السلام، والتحالفات والتدخلات الدولية وجهود الوساطة لإنهاء النزاعات المسلّحة، ومع ذلك يطفح تاريخ البشر بحروب لا معنى لها. لا شيء قد يردع الكائن البشري عن القتال غير التوعية والتّثقيف، وهو النّهج الذي سلكته اليابان بعد ضربة هيروشيما وناكازاكي. فالحرب التي انتهت بكارثة حوّلت مدينتين إلى مقبرة جماعية ضخمة، لم يبق فيهما أي كائن حي، سواء كان بشرا أو حيوانا أو شجرا، وهذا أقسى درس تعلّمه الإنسان الياباني على الإطلاق، أمّا وخز الضمير الذي عاشه أوبنهايمر، فلا يمكن وصفه، حتى في فيلم نولان لم نستطع أن نراه بوضوح، ربّما ليجعل المشاهد يقرأ الفيلم دون أي تعاطف مع مبتكر «القنبلة الذريّة». وفي رأيي فإنّ الرّجل لشدة عبقريته بدا غير سويٍّ في لحظة ما، حين تخيّل أن بلوغ المجد قد يكون ممكنا على بقايا جثث فاقت في عددها الثلاثمئة شخص. نهضة اليابان بعد تلك الحرب الفتّاكة كانت معجزة حقيقية، أما الأغرب فهو التحوّل الكبير الذي خطط له اليابانيون، اعتمادا على تبني دستور جديد، وإنشاء ديمقراطية حقيقية، ونزع السلاح مع بدء فوري لإعادة إعمار الاقتصاد وفتح أبواب الاستثمار الأجنبي، وسرعان ما أصبحت اليابان واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم. ولعبت منذ ذلك الحين دورا رئيسيا في استقرار وتنمية البلاد والمنطقة الآسيوية ككل. أمّا أوبنهايمر فقد انسحب من الحياة العامّة، إلى أن توفي سنة 1967 تاركا خلفه إرثا مثيرا للجدل، لكن لا يمكن إنكاره كشخصية رئيسية في تطوير القنبلة الذرية والعلوم النّووية، على الرغم من الصعوبات الشخصية والخلافات التي واجهها بعد الحرب. ولا يزال شخصية رئيسية.
توفي روبرت أوبنهايمر في عام 1967، تاركا وراءه إرثا مثيرا للجدل، لكن لا يمكن إنكاره كشخصية رئيسية في تطوير القنبلة الذرية والعلوم النووية. على الرغم من الصعوبات الشخصية والخلافات التي واجهها بعد الحرب، إلا أنه لا يزال شخصية رئيسية في التاريخ العلمي والسياسي للقرن العشرين. هل يمكن للكتب والسينما أن تزرع بذور السلام والرّغبة في حياة هادئة هانئة لا تلوّثها سموم الحروب وألعاب الموت التي يلعب بها مقاتلون غير ناضجين؟ يُطرح السؤال ويبقى الجواب عالقا، فالحروب موجودة منذ الأزل، وهي تغوي العباقرة تماما كما توهم الأغبياء بلذة النّصر.

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية