تقدّمت فيلم «أوبنهايمر» للمخرج الأمريكي كريستوفر نولان، حملات ترقب إعلامي يماثل ما شهدناه قبل سنوات في فيلم «جوكر» غير أنه لا يمكن إلا أن نتوافق على تميّز المخرج كريستوفر نولان، الذي أخرج عدداً من الأفلام التي بقيت في أذهان المشاهدين، ووعيهم، فهو مخرج يتميز برؤية، وبصمة فلسفية تحمل الكثير من التمايز على المستوى الإخراجي، كما المنظور الذي يتبناه، إذ غالباً ما يلفت انتباهنا إلى تلك الموضوعات، التي تبدو أكثر انتماء لجدلية تتعلق بالأسئلة التي تطال معنى العالم، وهي الصيغة الأكثر تداولاً في أعماله التي يعتمد في إخراجها على منظور ما بعد حداثي.
حدود التلقي
في الفيلم الذي بدأت عروضه قبل أيام بدت الاستجابة للتلقي واضحة عبر نسبة الحضور المرتفعة، حيث غصّت دور العرض بالحاضرين الذي حملوا معهم توقعاتهم تبعاً لمنطلقات، وميول، كما تاريخ نولان، الذي يمتلك رصيداً من أفلام نوعية خالدة، منها «فارس الظلام» و«دونكيرك» و«بين النجوم» وغيرها. تتشكل معضلة أفلام هذا المخرج من خلال نموذج التلقي الذي يحتاج إلى وعي مختلف أو عميق، فالرغبة في مشاهدة فيلم قد يتجاوز الثلاث ساعات لن يكون يسيراً لمن يبحثون عن وجبة من التسلية، إذ لن يتمكنوا من استساغته في ظل غياب وعي ثقافي، ولاسيما أن فيلمه الأخير يعالج إحد القضايا المفضلة في سياسة نولان الذي يُعنى غالباً بأسئلة وجودية، بالتوازي مع الذات، والهوية، والزمن، والأهم النموذج القيمي الأخلاقي ضمن مقولة العلم أو المعرفة، ومن هنا، فإن حيثيات صناعة أول قنبلة أو سلاح نووي في الحرب العالمية الثانية، ونعني القنبلتين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة الأمريكية على مدينتي هيروشيما ونازاغاكي اليابانيتين سيكون مثار جدل، لكن عبر اكتناه وعي شخصية الرجل الذي نعت نفسه «بمدمر العوالم» بعد يقظة أخلاقية متأخرة. الفيلم مقتبس من كتاب السيرة الذاتية الحاصل على جائزة «بوليتزر» بعنوان «بروميثيوس الأمريكي» الذي ألفه الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج. شيروين، وفيه تجسيد لرمزية أوبنهايمر بكل ما تحمله من تناقضات عاطفية ومعقدة، بما في ذلك المرجعية الأخلاقية للإنسان في سياق معضلة قيمية تتقاطع مع شخصية أوبنهايمر، حيث تلمّح نسخة الفيلم إلى حبه وولائه لوطنه، على الرغم من الشبهات اليسارية، ويهوديته العلمانية، مع الإشارة إلى أن والده جاء مرتحلاً من بروسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ينتمي الفيلم -إلى حد ما- إلى الطابع السيري، ويتعلق بسرد سيرة عالم الفيزياء الأمريكي يوليوس روبرت أوبنهايمر، الذي ينعت بأب القنبلة الذرية، وهو أيضاً مدير مشروع منهاتن خلال الحرب العالمية الثانية، لكن ضمن تكوينين دلاليين مركزيين، مع بعض التفرعات التي تستحق المعالجة. التكوين الأول: ذات أو شخصية أوبنهايمر، لا ضمن سرد سيري يتقصّى حياته المعقدة فحسب، إنما ضمن سياق أثره على تغيير التاريخ، وعلاقته المرهقة مع المؤسسة الأمريكية التي منحته مشروعاً، مقابل منحها تفوقاً في الحرب، في حين يتمثل المكون الثاني ببيان ما أحدثه أوبنهايمر من أثر على معنى الوجود الإنساني برمته حين أطلق وحشاً، ونعني السلاح النووي، بمعنى أنه وضع البشرية على حافة الفناء، بحيث لا يمكن التراجع عن ذلك.
شمل السؤال الأخلاقي إحدى الثيمات، خاصة إذا ما استثمرنا تحليلاً ثقافياً للمضمر في الفيلم، فهو يتبنى جدلية المعرفة، وما يمكن أن تضطلع به، فسؤال الفيلم يتأطر، بأن العلم قيمة تحتمل الخير كما الشر، ما يجعله في موضع تساؤل.
المعضلة الأخلاقية
تبرز القيمة الأخلاقية ضمن أسئلة واضحة في بنية الفيلم، وتبدأ من ذات «أوبنهايمر» وغرور الذاتي بما يتملكه من تفوق علمي، وتمايز، بالتضافر مع قيم، وقناعات تميل نحو مرجعية يسارية أو شيوعية، سببت له الكثير بداعي التهمة التي ألصقتها المؤسسة السياسية به، أو بعض أفرادها، ولاسيما بعد أن انتهى من تحقيق السلاح الأخطر الذي أنهى الحرب، غير أنّ هذه الانتماءات كما يصورها الفيلم ليست سوى ميول يسارية، ميزت جملة من المثقفين والعلماء في منتصف القرن العشرين، وتتصل بالحقبة المكارثية، ونعني ملاحقة الشيوعيين، واتهام بعض المثقفين والفنانين والعلماء بالعمالة لروسيا. وعلى الرغم من أنّ الحرب كانت مع اليابان، ويفترض أن يكون الروس حلفاء، غير أن السباق كان يبدو موجهاً حقيقة ضد القوة الشيوعية، وهذا ما أدركه أوبنهايمر، الذي قاد تحولاً بعد إسقاط القنبلتين من أجل السيطرة على قيم التسلح، والسباق النووي، وتحديداً بعد أن انتابه الندم نتيجة حجم الضحايا، لكن الأهم ما يمكن أن ينتج بعد ذلك… ما يبرر القيمة المشهدية البصرية التي يفتتح بها الفيلم، والتي تتمحور حول مركزية وعي أوبنهايمر، ورؤيته لمآلات فعله ضمن تتابع بصري يختزل تداعيات الفعل مشفوعاً بنزعة مفضلة لدى المخرج، ونعني التخلص من البناء الخطي، وتفضيل التكرار، كما معاودة الحدث، وتعدد الزوايا ضمن الإنشاء السردي السينمائي بوصف ذلك سمة من سمات أسلوب نولان، وهذا يتأتى نتيجة تعقيد وعي الذات التي تراقب الأثر ضمن اعتماد مشهدية تركز على الانشطار أو الانصهار النووي، بالتجاور مع الذين يحتفون بالإنجاز، مع تقريب لقطات لزملائه العلماء، وما ينتابهم من حيرة وارتباك، وما يكمن في داخلهم من ندم عميق، فكان اللجوء إلى تقنيات التّقديم والتأخير بصورة ترغب في عكس تعقيدات الموقف والشخصيات، مما يعمّق فعل التلقي بغية إنتاج تشييد آخر ينشأ في وعي المتلقي، الذي يتطلب منه أن يفكك بعض الألغاز والقيم والمواقف والاتجاهات.
يشمل السؤال الأخلاقي إحدى الثيمات، خاصة إذا ما استثمرنا تحليلاً ثقافياً للمضمر في الفيلم، فهو يتبنى جدلية المعرفة، وما يمكن أن تضطلع به، فسؤال الفيلم يتأطر، بأن العلم قيمة تحتمل الخير كما الشر، ما يجعله في موضع تساؤل. وهذا يندرج ضمن تخطيط مشهدي، وحواري متقن، ومن ذلك مشهد التساؤل عن عدم حصول أوبنهايمر على جائزة نوبل لكونه يصنع سلاحاً مميتاً، فكان رده بأن نوبل قد صنع الديناميت، غير أنّ القيمة الأخلاقية تبرز من مشهد جمع بين أوبنهايمر – بعد أن أحضره «ستروس» – وأينشتاين حيث دار حوار قصير بين الرجلين، ومن ثم نرى تحولاً في وجه أينشتاين الذي أدرك أن أوبنهايمر قد أنجز المهمة؛ ولهذا أشاح بوجهه عن الوزير، غير أننا لا نعلم فحوى الكلام إلا مع نهاية الفيلم. لقد شكّلت مرجعيات هذه الشخصيات المشتبه في انتمائها الشيوعي، وعلاقة أوبنهايمر بها، النقطة الأضعف من أجل اختراقه، حيث استغلت المؤسسة علاقاته الغرامية النسائية، كما صداقته مع بعض العلماء الشيوعيين، علاوة على علاقته بشقيقه المنتمي للحزب الشيوعي. ولعل هذا يشي بأن المؤسسة تبدو في تقاطعها مع القيم العلمية أسيرة غاياتها، حيث لن تتوانى عن فعل أي شيء بهدف تحقيق ما تريد، وهذا لا ينفي أن أوبنهايمر قد لاقى دعماً من بعض العقلاء، ولاسيما السيناتور الأمريكي الذي أصبح في ما بعد رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ونعني جون كنيدي، ضمن صيغة لا ترغب في إغراق المشهدية بسلبية واضحة إنما مع شيء من التعقل والمنطقية حين رفض أينشتاين حساب المعادلات التي تشير إلى أن القنبلة قد تطلق طاقة تؤدي لاحتراق الغلاف الجوي، فأعاد الورقة قائلاً: إن هذا لا يعنيه، إنما يعني أوبنهايمر، ويعني التبعات الأخلاقية. ويكاد يتكرر هذا عند لقاء أوبنهايمر بالرئيس الأمريكي بعد نجاح القنبلة، فيصرح الأول بأن يديه ملطختان بالدم، فيقدم الرئيس الأمريكي منديله كي يمسح أوبنهايمر يديه، قائلاً له بأن العالم غير معني بمن صنع القنبلة، بل بمن ألقاها.
هكذا تبدو معضلة نقد السياسي الذي يتخلى عن قيم أخلاقية، كما نرى في فعل اختيار أي المدن يجب أن تلقى عليها القنبلة، وكما نرى أيضاً في سياسة المؤسسة الأمريكية التي بمجرد حصولها على ما تريد تتخلى عن العلماء، فهي مؤسسة مسكونة براديكالية ومكيافيلية مقيتة عبر وجود عدد من الشّخصيات السياسية، كما العلمية التي تبحث عن النفوذ والسلطة، ولاسيما شخصية ستروس الذي لجأ إلى التلاعب والتزوير والتلفيق للتخلص من أوبنهايمر، بعد نجاح القنبلة؛ بداعي رفض الأخير صناعة القنبلة الهدروجينية لقوتها التدميرية، وبداعي موقف شخصي، أو ثأر. لقد سعى أوبنهايمر إلى استثمار شهرته لمقاومة تداعيات الفعل الذي قام به، ما دفع بعض أعضاء المؤسسة أو بعض قياداتها لمحاولة التخلص منه كونه لا يريد أن يستجيب لمحاولة تطوير الأسلحة، لكن المؤسسة تحتفي بكلا الموقفين حيث تصدّرت صورة أوبنهايمر غلاف مجلة «التايم» ومن ثم تصدرته صورة الوزير ستروس، ما يعني تحقيق الجدل بين السياسي والأخلاقي.
تتشكل إحدى مشاغل الفيلم بالقدرة على تكريس هجاء للقيم التي أنتجت هذه السؤال؛ ولهذا نرى إشارات بأن صناعة القنبلة لم تكن بهدف إنهاء الحرب، أو الردع، وإنما لأهداف سياسية أخرى، ومن ذلك الخوف من امتلاك السلاح من قبل دول أخرى. لقد كان الصراع ثلاثياً على من يمتلك القنبلة، ونعني أمريكا وألمانيا وروسيا، ولهذا فإن تكريس أكثر من 2 مليار دولار، و4000 عامل، وثلاث سنوات من العمل قد حقق الغاية، وجعل أمريكا القوة النووية الأولى.
فاعلية التأطير السينمائي
يؤطر الفيلم أيضاً بالعناية بالتفاصيل التي حرص نولان على تقديمها بصورة تكاد تكون مهووسة، فهو يتقصى الشخصيات، ويتمكن من اكتناه ما يكمن في داخلها ضمن درجة كبيرة من النضج والاتقان الإخراجي، حيث تمكن الممثل كليليان مورفي» من أداء الشخصية باقتدار، كما لا يمكن أن نرى بأن اختياره كان نتيجة تشابه الشكل مع الشخصية، إنما لقدرة هذا الممثل على استبطان مشاعر الشخصية بكل تعقيداتها، لكن هذا الحضور كان مصحوباً بعدد من النجوم المهمين في هوليوود، وأهمهم: «مات ديمون» وأداؤه لشخصية الضابط الأمريكي، كما أيضا الأداء المذهل لروبرت داوني جونيور وأداؤه لدور الوزير ستروس، وزوجة أوبنهايمر التي قامت بأداء دورها إيميلي بلنت، بالإضافة إلى غاري أولدمان، ورامي مالك، وغير ذلك من النجوم الكبار الذين تمكن نولان من إدارتهم باقتدار في هذا العمل. لقد كرس المخرج قدراته بالتضافر مع توفر ميزانية ضخمة، علاوة على سيناريو وحوار أتقن إنجازه شخصياً، كما موسيقى، مع انتقاء موفق لمواقع التصوير، والأهم القدرة على تحقيق إبهار مدروس وعميق أسهم في تكوين ردود فعل عاطفية وفكرية وبصرية وفلسفية تجاه الفيلم، ومن هنا نتفهم حرص نولان الشديد على استخدام التصوير التقليدي بتقنية إيماكس، مع رفض قاطع للتصوير الرقمي، كونه يفتقد الطابع الحميمي تبعاً للمخرج، ومنظوره، ومن ذلك مشاهد تجسد مواقف العلماء، والقيم المستحقة للفعل الذي نتج عن ابتكار السلاح، حيث عبّر عن ذلك في اللقطات التي اتصلت باختبار عملية تفجير القنبلة في الصحراء، ونعني كتم الصوت، ومن ثم استعادته، مع بعض الارتدادات برمزية واضحة، لنخلص إلى أن الفيلم لم يخيب التوقعات، إنما كان بالقدر نفسه من الاتقان، والعمق الذي ميّز سائر أعمال هذا المخرج.
كاتب أردني فلسطيني