مرّ عام لم أزر فيه مكتبة الإسكندرية. السبب أني لا أغادر البيت في القاهرة إلا نادرا. لم تعد لديّ القوة القديمة. طوال هذا العام لم أحضر أيّ فاعلية ثقافية غير مرات قليلة ـ خمس أو ست مرات – بعد حضوري لمعرض الكتاب السابق في مكتبة الإسكندرية. أربعة منها بين القاهرة والإسكندرية لتكريمي بعد حصولي على جائزة النيل في الآداب، ومرة لحضور فاعلية منذ شهر في القاهرة في إطار مهرجان «دوائر» الذي أقامته دار نشر تنمية ومعها دار ديوان، وكان مهرجانا حافلا بالحضور من الفنانين والكتاب، وعلامة رائعة على ما يمكن أن يفعله المجتمع الأهلي في الثقافة من حركة وجمال. هذه المرة دُعيت لحضور الدورة الثامنة عشرة لمعرض مكتبة الإسكندرية الدولي للكتاب، الذي أقيم في الفترة بين 12 – 26 يوليو/تموز هذا العام.
مكتبة الإسكندرية التي كان اختيار أحمد زايد رئيسا لها منذ حوالي العام، فرحا أقيم في الفضاء على السوشيال ميديا. أحمد زايد لمن عرفه واقترب منه علامة على الاستغناء الشخصي، فهو مكتفٍ بأعماله وإنجازاته التي شملت دولا كثيرة غير مصر. هو عالم الاجتماع والمفكر الكبير صاحب الكتب المهمة مثل «مقدمة في علم الاجتماع السياسي» و»خطاب الحياة اليومية في المجتمع المصري» و»صور من الخطاب الديني المعاصر» وغيرها، ومقالات وأبحاث تحتاج صفحات، فضلا عن مناصب تولاها من قبل مثل رئيس قسم الاجتماع في جامعة قطر بين عامي 1986-1992 ومدير مركز البحوث والدراسات الاجتماعية في جامعة القاهرة في ديسمبر/كانون الأول 1994 حتى 1998، حيث يُعد مؤسس المركز، كما عمل مستشاراً ثقافياً لجمهورية مصر العربية في الرياض بين عامي 1998 و2001، وعميداً لكلية الآداب في جامعة القاهرة، وعضويته في الاتحاد الدولي لعلم الاجتماع، والجمعية العربية لعلم الاجتماع وغير ذلك كثير.
لقد أعاد النشاط الثقافي للمكتبة طول العام، وكان معرض كتاب العام الماضي أحد تجلياته الكبرى، ثم جاء معرض كتاب هذا العام. لم تنقطع علاقتي الشخصية والفكرية ببعض العاملين في المكتبة من قبل، والباقين فيها مثل محمد سليمان رئيس قطاع التواصل الثقافي في المكتبة، وصاحب الجهد العظيم في العمل الثقافي هناك، وفي إخراج هذا المعرض بصورته الرائعة، والأستاذ في كلية الآداب في جامعة الإسكندرية، ومعه الشاب محمد غنيمة الباحث الجغرافي والتاريخي، ومسؤول البرنامج الثقافي ورئيس وحدة الوثائق في المكتبة، وصاحب الأعمال الرائعة مثل «لم يصبه العرش» و»عروش تتهاوي» و»ذاكرة النخبة» و»جمال حمدان صاحب شخصية مصر» وغيرها. وكذلك حسين عبد البصير الحاصل على دكتوراه في دراسات الشرق الأدنى في التاريخ القديم، وعلم المصريات والآثار، وصاحب أعمال وروايات أدبية وعلمية في الآثار مثل «البحث عن خنوم» و»ملكات الفراعنة ـ دراما الحب والسلطة» و»أسرار الآثار.. توت عنخ آمون والأهرامات والمومياوات» وغيرها، فضلا عن كتابته وبحوثه باللغة الإنكليزية. وهو يشغل الآن منصب مدير متحف الآثار في جامعة الإسكندرية، والمشرف على مركز زاهي حواس للمصريات في مكتبة الإسكندرية، كذلك لم ينقطع اتصالي بالأديب منير عتيبة رئيس تحرير سلسلة «كتابات جديدة» في القاهرة، الذي تتيح له المكتبة العمل الجميل في مختبر السرديات، من ندوات أو ورش كتابة وغيرها.
ليست الروعة في إقامة معرض الكتاب فقط، لكن في الفاعليات الثقافية المصاحبة له. أكثر من مئة فاعلية للناشئين والكبار مثل «أحمد عبد المعطي حجازي.. مسيرة وعطاء» و»ثورة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته» و»قراءات قصصية مع المبدعين العرب عبر الإنترنت» و»قراءات قصصية للمصريين « و»الرواية بين التاريخ والفانتازيا» و»سيرة وإبداع وتاريخ مع محمد سلماوي» و»الثقافة القانونية في عصر السوشيال ميديا» و»مصر المبدعة.. روايات اليافعين» وحوارات مفتوحة مع كتاب من كل الأجيال وكل ربوع مصر يطول ذكر أسمائهم فهم مئات، واحتفاء بالكثيرين ممن حصلوا على الجوائز في كل المجالات الثقافية والعلمية، فضلا عن مناقشة كتب مهمة والأمسيات الشعرية وورش الكتابة والاحتفاء بفنانين مثل فتحي عبد الوهاب وآخرين. كانت المكتبة والفضاء حولها مثل نفحة من السماء تملأ القلب والروح بالسعادة. كان اللقاء مفتوحا معي يديره الشاعر وكاتب المسرح والمترجم ابن الإسكندرية ميسرة صلاح الدين، ولن أتحدث عن الحفاوة التي قوبلت بها، وأولها تفضل أحمد زايد بحضور اللقاء وتقديمي للحاضرين، الذين كان من بينهم الكثيرون من الأصدقاء يطول الحديث عنهم كذلك القراء، لكن أريد أن أقدم ثناء خاصا لمحمد غنيمة الذي كان يتابع كل الندوات وكل الحاضرين، فيجده أي مدعو أمامه عند الحاجة أو بشكل طبيعي، فالجهد الذي بذله فوق أي احتمال، وكان أسرع حلقة وصل مع المسؤولين. لن أتحدث عن الإسكندرية التي في كل زيارة أراها تفقد الكثير من رونقها في الشوارع والشواطئ فلم أمشٍ فيها كثيرا خوفا من الحزن، فقط تجرأت وذهبت إلى محل فول وفلافل محمد أحمد مرة، ثم مطعم الأسماك في النادي اليوناني بالأنفوشي مرة، لأكون قد أقمت طقوس المدينة التاريخية، كما عرفتها، بين الفلافل والأسماك! لم يكن للزيارة أن تمر دون لقاء محمد عوض حارس المدينة الذي كتب عنها أعظم الكتب في العمارة، والذي أصدر مؤخرا كتابه بالإنكليزية «مصر وفرنسا» والذي كتبت عنه مقالا قبل سفري، والذي غاب عن المكتبة منذ سنوات بعد انتهاء مرحلة إسماعيل سراج الدين ومعه سحر حمودة وغيرهما. كان اللقاء هذه المرة في قرية الدبلوماسيين في الساحل الشمالي، حيث الشاليه الصغير الذي يملكه، وانضم إلينا الفنان ثروت البحر، الذي عرفت لوحاته متاحف العالم، وهو الشاعر والكاتب الذي يتحفنا بكتاباته ورسومه الآن على السوشيال ميديا. كان لقائي بثروت البحر هدفا كأنه نهاية حياتي، فقد باعد بيننا المرض والآلام، وكم فرحت بوجوده في القرية وحضوره، هو الذي مرّ بمحن صحية صعبة مثلي، ومثل محمد عوض. كنت ابتسم بيني وبين نفسي فنحن الثلاثة غير قادرين على الحركة إلا بمساعدة، وحتى المقاعد لن نستطيع تغيير مكانها في حديقة الشاليه الصغير مع دوران الظل، فكان أحد العاملين أو زوجتي تنقلها لنا وتسندنا، رغم ذلك كنت أعرف أننا سنتحدث أعظم ما يمكن من حديث. واكتفي في الختام بما كتبه الفنان ثروت البحر على صفحته في فيسبوك حول هذا اللقاء.. «كان لقاء سكندريا غريبا كأننا جرحى الزمن والعمر، تسبح النفس في وعاء الذاكرة والذكريات المشتركة، ويسمح الحديث والوهن بالقعود المشترك، وإذا حاول أحد الوقوف يتحول الحوار إلى «خلّي بالك» ولا يوجد سوى ابتسامة أسى، وحين أتوقف عن الكلام للنسيان ينتظرون لحظات حتى نتذكر. لحظات كما الطبطبة بطعم «معلهش» ورغم ذلك ما أن نتذكر مشهد في إلإسكندرية التى لا أحد ينام فيها حتى يخرج صوت الصمت، من العمده محمد عوض مثل التنفس تحت الماء، موضحا تاريخ المبنى وطرازه واسم المهندس الذي كان.. وأغلب الحديث عن ما كان وكأننا صوت النداء الأخير. لماذا في المكان كنا متكئين على وسائد الغربة، رغم أننا في تراس شاليه العمدة في الساحل نتنسم وداعة صوت صمت غروب الشمس في البحر خلف الشجر؟ أهداني محمد عوض كتابة القيم ـ يقصد مصر وفرنسا- كأنه واجب طبيعي منه وحق لي في زمن ضاعت فيه الحقوق والواجبات. كنت أود أن أحمله بيدي وأنا أغادر مودعا، لكن حمله الجليس وحملت أنا عصاتي كمن يقدم ذراعا وساقا في وقت واحد. كمن يحجل في لعبته الأولى. كانت هي تسمية اللعبة التى أصبحت مع الغروب الساحر في الساحل بطعم الأخيرة. لكن ما يقرب من قرنين ونصف القرن مجتمعة هي أعمارنا تقريبا، في مكان وزمان واحد، شيء يدعو للدهشة والسعادة معا دون تفكير وتنظيم وتفسير. ذكريات وخبرات كنافذة تطل إلى أفق ما في البحر، مع الغروب الساحر».
روائي مصري