ما تزال الدبلوماسية الأمريكية تتعامل مع السعودية، وكأن ثمانين عاما من الزمان لم تمر منذ لقاء الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود على ظهر الطراد «كوينسي» في البحيرات المرة في قناة السويس، وسط غبار الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت تم تثبيت العلاقات بين الدولتين على أساس مبدأ واحد هو «النفط مقابل الدفاع». لكن ثمانين عاما من التطورات الجيوسياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط والعالم تركت بصماتها القوية على تلك العلاقات، فلم تعد السعودية مثلما كانت، وإنما صارت أقوى، ولم تعد أمريكا كما كانت، وإنما أصبحت مكانتها أضعف في النظام العالمي. ومن المثير للدهشة أن أغلبية صناع السياسة وخبراء العلاقات الأمريكية – السعودية ما زالوا ينظرون إلى تلك العلاقات من نافذة مبدأ «النفط مقابل الدفاع» حتى الآن، على الرغم من أن السياسة الخارجية السعودية أظهرت في مناسبات كثيرة خلال العقود الماضية، أنها تميل إلى تغليب مصالحها الوطنية والقومية في مواقف فارقة، حتى إن اختلفت مع مصلحة الولايات المتحدة، كما حدث في إعلان حظر تصدير النفط عام 1973.
السعودية ترفض إقامة علاقاتها مع أمريكا على أساس مبدأ «النفط مقابل الدفاع»، وهي تخطو لبناء قوة دفاعية مستقلة، تتضمن توطين الصناعات الدفاعية، وتنويع مصادر السلاح
سقوط مبدأ «النفط مقابل الدفاع»
ويمكن القول بأن التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم خلال القرون الثمانية الأخيرة، جعلت دبلوماسية «النفط مقابل الدفاع» ضعيفة الصلة بالواقع، خصوصا مع تنامي القوة الاقتصادية للسعودية، واتساع الهامش الممكن للمناورة السياسية، وخصوصا مع تنامي قوة الصين الاقتصادية والعسكرية والسياسية في العالم، وفي الشرق الأوسط. كذلك فقد زاد التقارب السعودي – الروسي مع تقارب المصالح النفطية للبلدين، داخل إطار مجموعة «أوبك +». وليس هناك ما يجعل السياسة الخارجية السعودية أسيرة لمبدأ «النفط مقابل الدفاع» في الوقت الحاضر. وقد تجلى هذا في رفض ضغوط الرئيس الأمريكي لزيادة إنتاج النفط. كما أن القمة العربية – الأمريكية في يوليو/تموز من العام الماضي أسفرت عن تذويب محاولة فرض تعاون دفاعي بمشاركة إسرائيل. وتم ذلك بهدوء ومن دون ضجيج.
رفض مبدأ «النفط مقابل الدفاع» لا يعني أن تنقلب السعودية على أمريكا، أو اتخاذ مواقف متطرفة لمصلحة الصين أو روسيا، لكنه يقود لتصويب السياسة الخارجية السعودية على أسس مبادئ حسن الجوار، وتنمية المصالح المشتركة، وتبادل المنافع، والاحترام المتبادل، هذا يعني عمليا حدوث تغيرين كبيرين في العلاقات بين البلدين؛ الأول هو إزاحة اللاءات الأمريكية من طريق تطوير العلاقات بينهما، خصوصا في ما يتعلق بالسياستين النفطية والدفاعية. والثاني هو تصويب مسار العلاقات على أسس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. وقد طورت السعودية عددا من المطالب، ترتبط بزيادة قدرتها الدفاعية بالاعتماد على النفس تسليحيا، وبناء قوة نووية سلمية، تفتح آفاق تطورها الاقتصادي والتكنولوجي. هذه المطالب لا تتعارض مع خلق مناخ جديد للعلاقات في الشرق الأوسط، يسمح بدمج إسرائيل في المنطقة، وهو ما يلتقي مع المصالح الأمريكية، لكن الرياض تشترط لذلك إقامة دولة فلسطينية في إطار تسوية سياسية عادلة، على أساس مبادرة السلام العربية.
حاجة بايدن إلى بن سلمان
لا تبدو السعودية في عجلة من أمرها بسبب أي ضغوط خارجية أو داخلية. أسعار النفط مستقرة فوق 80 دولارا للبرميل، ومن المرجح أن تتماسك أكثر في اتجاه الصعود إلى ما فوق 90 دولارا في الأشهر المقبلة. وهي تبدو أكثر انشغالا بترتيب علاقاتها مع مجموعة دول «بريكس»، أكثر من انشغالها بتوقيع اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة. مثل هذه الاتفاقية التي كثر الحديث عنها، رسميا وإعلاميا في الولايات المتحدة، يتعارض، في حقيقة الأمر، مع الخطاب السياسي السعودي لثلاثة أسباب:
السبب الأول، أن السعودية ترفض إقامة علاقاتها مع أمريكا على أساس مبدأ «النفط مقابل الدفاع»، وهي تخطو إلى بناء قوة دفاعية مستقلة، تتضمن توطين الصناعات الدفاعية، وتنويع مصادر السلاح. بينما ينطوي طلب توقيع اتفاقية دفاعية، على أساس المادة الخامسة من ميثاق حلف الأطلنطي أو غيرها، على التسليم بهذا المبدأ من الناحية العملية.
السعودية ترفض إقامة علاقاتها مع أمريكا على أساس مبدأ «النفط مقابل الدفاع»، وهي تخطو لبناء قوة دفاعية مستقلة، تتضمن توطين الصناعات الدفاعية، وتنويع مصادر السلاح
السبب الثاني، أن طلب توقيع اتفاقية دفاعية يتناقض مع تأييد القيادة السعودية لفكرة إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، ورفض محاولة الولايات المتحدة الاحتفاظ باحتكار القوة في العالم، في ظل نظام أحادي القطبية، الذي أصبح غير ذي صلة بموازين القوى العالمية حاليا.
السبب الثالث، أن توقيع اتفاقية دفاعية مشتركة من شأنه تضييق هامش المناورة أمام السياسة الخارجية والدفاعية السعودية، وزيادة التوتر الإقليمي على العكس مما تريد السعودية. الأخطر من ذلك، هو أن مثل هذه الخطوة يمكن أن تنتهي إلى وضع السياسة الدفاعية السعودية في قبضة إسرائيل، التي تتولى القيادة التنفيذية الفعلية للمشروع الدفاعي الأمريكي للشرق الأوسط، بعد ضم إسرائيل إلى مسرح عمليات القيادة المركزية الأمريكية رسميا في يناير/كانون الثاني 2021. الحديث عن أن المطلب الأول للسعودية في مقابل التطبيع هو أن تقدم أمريكا ضمانا استراتيجيا بأمنها، والتزاما بالدفاع عنها، في حال تعرضها لاعتداء خارجي، يتجاهل كونها إحدى القوى العشرين الرئيسية في العالم، بل يتعامل معها كأنها «محمية» تستظل بظلال القوة العسكرية الأمريكية.
جائزة ثمينة إلى نتنياهو
تلتقي حاجة بايدن إلى نتنياهو عندما يتعلق الأمر بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل. وكان بايدن قد وعد بأن تنضم السعودية إلى اتفاقيات التطبيع في حملته الانتخابية عام 2020، وهو يريد أن يقول لناخبيه وجماعات الضغط الصهيونية بأنه وفى بوعده، قبل أن يحل موعد التصويت في الانتخابات المقبلة. كذلك فإن بايدن، بعد أن بدأ مشروع التعديلات القضائية في التحول إلى قانون، اكتشف أنه قد ارتكب خطأ استراتيجيا، بالدخول في حرب كلامية مع نتنياهو في هذا الشأن. الآن يجتهد بايدن في محاولات لتصحيح موقفه، وتقديم عربون صداقة جديد يسترضي به رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي كان بايدن قد وصف حكومته بأنها أكثر حكومات إسرائيل تطرفا. ويبدو أن حسابات بايدن تذهب إلى أن «جائزة التطبيع» مع السعودية، يمكن أن تكون حجر أساس لتغيير قواعد اللعبة الدبلوماسية بين الإدارة الأمريكية وإسرائيل في الوقت الحاضر. قيمة «الجائزة» لا تقتصر على الفرص الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي تتيحها لإسرائيل، وإنما هي تتجاوز ذلك إلى الدور الذي يريد بايدن أن تلعبه السعودية في دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، للمحافظة على الهدوء في الضفة الغربية. ويتردد أن واشنطن تحاول إقناع الرياض بتقديم حزمة مساعدات مالية سخية إلى السلطة من أجل إنقاذها. وتتفق كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على تقزيم القضية الفلسطينية، وتقسيمها في الأجل المنظور إلى عنصرين: الأول هو الإبقاء على السلطة حية في غرفة الإنعاش، بدعم مالي سعودي، وتعزيز دورها في العمل على احتواء الميل إلى العنف بين الشباب الفلسطيني. العنصر الثاني هو إطلاق عملية التوسع الاستيطاني، وتهويد الضفة الغربية، وتحويلها إلى «يهودا والسامرة» بالمفهوم التوراتي، تحت غطاء التزام معلن بعدم ضمها! نتنياهو أيضا في حاجة شديدة إلى تطبيع العلاقات مع الرياض، لتوجيه رسالة إلى خصومه السياسيين في الداخل والخارج بأنه هو رئيس الوزراء القادر على تطبيع العلاقات مع الدول المجاورة، وتوسيع صيغة التعايش على أساس مبدأ «السلام مقابل السلام» والاحتفاظ بالأرض، من دون أن يؤدي ذلك إلى مضاعفات إقليمية سلبية. كما أنه يريد التطبيع مع السعودية لتوجيه رسالة إلى العالم مفادها أن تجاهل «حل الدولتين» وتوسيع الاستيطان لا يمثل عقبة في طريق السلام. ومع أن تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، ووزير الخارجية بلينكن تعيد التأكيد مرة بعد المرة على أن التطبيع ما يزال بعيدا، فإن تعيين مبعوث أمريكي خاص لشؤون التطبيع ودمج إسرائيل إقليميا، كان إشارة على جدية وإلحاح هذه المسألة، وقد أسفر أول اجتماع للمبعوث الأمريكي لشؤون التطبيع السفير دان شابيرو مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، عن ترتيب اتفاق بين شركة إسرائيلية (سولار إيدج) وأخرى سعودية (عجلان وإخوانه)، حسبما أوردته «بلومبيرغ»، يتم بمقتضاه فتح القطاع الصناعي السعودي لحلول تكنولوجية إسرائيلية، تساعد على الانتقال من الاعتماد على الطاقة التقليدية إلى الطاقة الجديدة. هذا الاتفاق تم برعاية وزارة الخارجية والمخابرات الإسرائيلية، بمبادرة من شابيرو، ولم يتم في نطاق صيغة اقتصادية – تسويقية بحتة (business – to- business). ومن المرجح أن تكون له تبعات كثيرة في مجالات التعاون متعدد المجالات والمستويات (عرضيا وأفقيا)، ليس في قطاعي الصناعة والطاقة فقط، ولكن في كل قطاعات الاقتصاد تقريبا، حيث تكون الطاقة أحد مكونات النشاط. السفير دان شابيرو الذي كان سفيرا سابقا للولايات المتحدة في إسرائيل تم تعيينه في يونيو/حزيران الماضي لهذا المنصب المستحدث، بهدف العمل على دمج إسرائيل في المنطقة العربية، مع التركيز على السعودية، باعتبارها البوابة الأخيرة لتطبيع العلاقات بين الدول العربية والإسلامية وإسرائيل.
كاتب مصري