يبدأ الفيلم بامرأة تلتقي صدفةً رجلا في بار عزمتها إليه أختها، كل تلتقي بأحدهم حضّرته الأخت لها، تلتقي الأولى، بْلانش، صدفةً بآخرَ لتبدأ العلاقة معه، وبالتالي قصّة الفيلم. هذا استهلال عادي للسينما، حيث تلعب الصّدف دوراً في تشكيل مآلات الشخصيات ومساراتها. أما ما يجعل القصة، وبالتالي نسبياً، الفيلم، مثيراً للاهتمام فهو طبيعة التناول لما سيأتي لاحقاً. أي المسار والمآل.
هنا، في «الحب والغابات» تتطور العلاقة بانسياب تتخللها نقاط انعطافية لا يمكن أن تخطئها العين، نقاط يدرك أحدنا أن ما بعدها في العلاقة بين الشخصيتين، وبالتالي قصة الفيلم، سيفترق عمّا هو قبلها. هذا كذلك تطوّر عادي للقصة، ما لم يصوَّر جيداً، ويُملأ بحوارات لا تقل جودة. هو حال فيلم الفرنسية فاليري دونزيلّي (L›amour et les forêts) المنطلق من تقاطعات عادية لحياة يومية يمكن من خلالها بناء علاقة بين رجل وامرأة يلتقيان صدفة، والمتطوّر، من بعد انطلاقه، إلى تعقيدات في العلاقة تذهب بها وبطرفيها إلى نواح تراجيدية أساسها بسيكولوجيا الشخصيتين.
تبدأ العلاقة بشغف وعشق يملأ حياة الطرفين، مع ما بدا مقبولاً وغير ملحوظ في انتقال بْلانش للعيش في مدينة أخرى، تابعةً زوجها. كانت هذه نقطة تمهيدية لسرد طبيعة العلاقة بين الطرفين، المرأة فيها تقدّم والرجل يأخذه، هي تتنازل وهو يصر، لتغير من أسلوب حياتها بما يتلاءم مع أسلوب حياته هو. تتراكم هذه الانعطافات، تبدأ بتشكيل تأثيرات على طبيعة العلاقة الاستحواذية التي يمحو فيها الرجل شخصية المرأة وخصوصياتها.
الاستحواذية هذه لا تكتفي بتنازلات بْلانش، بل تتخذ مساراً تصاعدياً في تمادي الزوج بهوسه، فمع كلّ تكيّف وتنازل للزوجة، يصعّد الآخر بملاحقاته واستجواباته، ما سيتحول لاحقاً إلى عنف لفظي وجسدي، لشخصية هي في النهاية بسيكوباثية، استحواذية بشكل مرَضيّ وعنيف. تتطوّر العلاقة ضمن هذه الأجواء والتوترات إلى أن تقرّر بْلانش تغييراً راديكالياً لحياتها مع شريكها بشكلها التي هي عليه.
يعتمد الفيلم على عنصر التشويق في تنقّلات أحداثه، مازجاً بين أنواع سينمائية مختلفة، هو فيلم رومانسي عن علاقة حب بين طرفين ومآلاتها المؤلمة، هو فيلم بيسكولوجي يعرض الحالات المرَضيّة لواحدة من شخصياته. هو، في ما يمكن أن يكون أبعد في ما يخص سلوك الشخصيات المتطرف، فيلمٌ متموقع على أطراف أفلام الجريمة، وتَطوّر ما كان استهلالاً عادياً إلى ما سيصير استثنائياً.
الفيلم المشارك في مهرجان كان السينمائي هذا العام، ضمن برنامج «العرض الأول» لا يبتعد عن عموم عوالم مخرجته، وإن أتى بمقاربة معكوسة، فمن بين أفلامها، لها «أُعلنَت الحرب» (مهرجان كان: تظاهرة أسيد، 2011) و»مارغريت وجوليان» (مهرجان كان: المسابقة الرسمية 2015). يتفق الفيلمان في ما يختلفان فيه مع الفيلم الجديد، فكلاهما مبني على علاقة حب بين رجل وامرأة، يحدث في القصة بينهما ما يشدّ من العلاقة، أي أن الشخصيتين تبدآن من بعيد لتقتربا، في «أُعلنَت الحرب» يعود كل من الشخصيتين إلى العلاقة بعد اكتشافهما مرض طفلهما. في «مارغريت وجوليان» تجتمع الشخصيتان في علاقة محرمة هاربتين من العائلة والمجتمع. في الفيلم الجديد، تتخذ القصة منحى معاكساً، إذ يرسم الفيلمُ مساراً انفصالياً للشخصيتين في علاقة مأساويّة واستحواذية يصب أحد طرفيها سمّه فيها، بتباين واضح بين الشرير، هو، والخيّرة، هي، وهو ما لا يلزم في طبيعة الفيلمين السابقين، إذ يتخذ الجانب الشرير في الفيلم شكلاً خارجياً، تهديداً خارجياً للعشيقين المجتمعين المتعاونين لتخطيها والوصول إلى مآلات تلائم الحب الذي يعيشانه. هنا، في «الحب والغابات» اشتغال أكثر على الحالات النفسية المؤذية ضمن علاقة حب، أو علاقة بدأت بالحب لتتطور إلى تراجيديا قد تكون غير متوقّعة، لكن إشارات واضحة كانت تدل عليها مع بدايات الفيلم، مع بدايات العلاقة. هذا ما يمكن أن يعطي للعنوان معناه، «الحب والغابات» حيث الحب بكل صراحته وعفويته ونوره، كما يكون في أول العلاقة، والغابات حيث الغموض والحذر والعتمة، وقد يودي طريق الأول إلى نهايات الأخير.
كاتب فلسطيني سوري