رياض سلامة والاقتصاد السياسي للجمهورية الثانية

وسام سعادة
حجم الخط
0

في «الاقتصاد السياسي للجمهورية الثانية» يجتمع في اسم رياضة سلامة أكثر من عنوان.
العنوان الأول: طول المدة. فقد تولى منصب حاكمية المصرف المركزي زهاء الثلاثين عاماً، عاصر خلالها أربعة رؤساء جمهورية وفترات من الفراغ الرئاسي، وتبدّلت بازائه الحكومات وتعاقب رؤساؤها وهو حيث هو. ليس له قرين في هذا الا الرئيس المستدام لمجلس النواب اللبناني منذ 1992 نبيه برّي.
وبما أن صيغة اتفاق الطائف أبقت على منصب حاكم مصرف لبنان للطائفة المارونية، أسوة بمنصب قائد الجيش الذي يعود لأحد الموارنة أيضاً بموجب عرف دستوري، وبما أن الدستور لا يبيح لرئيس الجمهورية المفترض فيه الانتماء للطائفة المارونية أيضاً أن يجدّد له مباشرة لولاية جديدة، هذا بخلاف عدم وجود حاجز زمني كهذا يحول دون الإطالة في المنصب بالنسبة إلى رئيس مجلس النواب الشيعي أو بالنسبة إلى رئيس الحكومة السني، يظهر في المقابل أن حاكم المصرف المركزي هو الأكثر قدرة بين الأسماء المارونية على رأس الدولة ومؤسساتها ومرافقها وأجهزتها على الاستمرار مطولاً في المنصب الذي يتولاه.
في العالم، ليس من يقارع سلامة في مدة الثلاثين عاما التي قضاها على رأس مصرف لبنان سوى الحاكم المستمرّ في تبوء السدّة برومانيا موغور ايسارسكو. والأخير في المنصب منذ 1990باسثتناء عام ونيف وسط كل هذه المدة تولى فيها رئاسة الحكومة في بلاده.
في ظل ايسارسكو انتقلت رومانيا من الاقتصاد الموجه للمرحلة «الشيوعية» إلى اقتصاد السوق. أما مع رياض سلامة فتجذر التناقض بين «الاقتصاد الحرّ» على الطريق اللبنانية وبين «اقتصاد السوق».
باختصار، سلامة ينتمي إلى مدرسة في الاقتصاد لا تحبّ الركون إلى آليات العرض والطلب. لبنانياً هو لم يؤسس هذه المدرسة. البرجوازية التجارية والمصرفية اللبنانية فضّلت مبكراً أن تكون لعبة السوق محدودة، مضبوطة، غير تنافسية، مكبلة بالوكالات الحصرية. سوق بالتوافق والتزكية. على غرار بدعة «الديمقراطية التوافقية» وانتخابات التزكية. الليبرالية الاقتصادية في النموذج اللبناني حاضرة فقط من خلال السرّية المصرفية، وحرية حركة انتقال الأموال. لكنها منكمشة، ضامرة، عندما يتعلّق الأمر بالاحتكام إلى قوانين العرض والطلب في تحديد الأجور والأسعار والأرباح.
وضامرة بعد أكثر على مستوى توزع أنشطة الاستيراد والتصدير. يجري توزع هذه الأنشطة والقطاعات من خارج آليات السوق، وبعد ذلك فقط يمكن الركون إلى السوق.
سلامة لم يوجد كل هذا. أوجد شيئا آخر. إخراج سعر الليرة اللبنانية لمدة تزيد عن ربع قرن عن قانون العرض والطلب، وتثبيتها الطويل الأمد، المتكامل مع سياسات الإستدانة الحكومية الغارقة أكثر فأكثر في الاستدانة من أجل تمويل الاستدانة، وفي الاستدانة أكثر فأكثر من الأفراد، من حيث هم المودعون في المصارف اللبنانية، بمعية سندات الخزينة التي تدين فيها المصارف الخاصة ما تودعه لديها الناس للمصرف المركزي، وبعامل جاذب للمودعين هو أسعار فائدة أولترا – ربوية، بالعملة الصعبة، وبعد أكثر بالعملة اللبنانية. يمكن أن يشبه كل هذا بهرم التحايل بونزي. لكنه تشابه ظاهري فحسب. هنا الأمر يرتبط بأثر هذا النموذج على حركة النمو.

الاستدانة من أجل الاستدانة

ثمة من اعتقد ان دينامية الاستدانة من أجل الاستدانة وما يتبعها من تحويل الناس لدائنين للدولة بواسطة المصارف الخاصة من شأنه أن يحرّك النمو ويشجع على الاستثمار. وما ظهر ان هذا التصميم سريع العطب. أول ما تراجع النمو إلى حدود الصفر، ما يرتبط بتعقد الأوضاع السياسية في سوريا ولبنان بين 2013 و2016 تحديداً، دخل هذا التصميم في مقتل. حينها كان خيار سلامة الهروب إلى الإمام بعد أكثر. المضي في سياسات الهندسة المالية لصالح المصارف ومعدلات الفائدة العالية للمودعين رغم «الصفر نمو». النتيجة أنه جرت المحافظة على معدلات الفائدة العالية لبضع سنوات إضافية، أخذت معها حركة هجرة الأرصدة والثروات إلى الخارج تزداد شهراً بعد شهر، إلى أن زاد الأمر يوم فرض الحديث نفسه صيف 2019 حول أزمة «شح الدولار» أو «أزمة السيولة» – وهذا تعبير مضلل كمثل أن تعرف اللوكيميا بأنه حالة متقدمة من فقر الدم. كان النتيجة ان «طارت» الودائع، وصارت المنابر تندد بالأموال «المهربة» إلى الخارج، في بلد لم يقر فيه قانون الكابيتال كونترول لتقنين حركة إخراج المال منه إلى خارجه.
بالتالي، كان رياض سلامة عنوان تثبيت العملة بين 1993 و2013 من حيث هي السياسة النقدية المرتبطة بدوامة الاستدانة من أجل الاستدانة التي تعتمدها الحكومات، والمرتبطة بالتشابك مع هذا برفع أرباح المصارف، هذا في مقابل ارغام هذه المصارف، أحبت ذلك أو اضطرت أو مانعت، على الانضباط تحت توجيهات مصرف لبنان. وبعد 2013 صار سلامة عنوانا للعناد: المضي قدما في سياسات الهندسة المالية للحفاظ على معدلات الفائدة العالية في ظل اقتصاد بصفر نمو. هذا أدى في النهاية، وبالتداخل مع أزمة البلد السياسية، وعزلته جراء موقف الغرب وبعض العواصم العربية من هيمنة «حزب الله» عليه، إلى أزمة شح الدولار فالانهيار المالي والمصرفي، صيف وخريف 2019. بعد ذلك صار سلامة عنوانا لشيء جديد. لنظرية تفيد بأن الأموال حتى لحظة الانهيار، المرتبطة بأزمة السيولة، هي بين الحياة والموت، لكن يمكن للمصارف فتح نشاط حي مواز لهذه الحالة العالقة، هذا بأن يجري التمييز بين الدولارات التي تدخل المصارف اعتبارا من تشرين الأول/اكتوبر 2019 على أنها حية ترزق، «فريش» وأن يدخل البلد زمن التوازي بين الدولارين، العالق والفريش، وكل ما تبع ذلك من تعدد أسعار الصرف، وليكون المصرف المركزي هو من يحدد كل الأسعار عدا سعر السوق السوداء، هذه لا يحددها مباشرة، لكنه يحدد سعر الدولار العالق بين الحياة والموت، وسعر الدولار على منصة صيرفة.
العرض والطلب ليست له قيمة أساسية عند سلامة. يمكن القول أن التصور الاقتصادي عنده مبني على الاستثمار في المستقبل. تحويل الأيام التي لم نصل إليها بعد إلى سلعة. أكل جيل لأتعاب الجيل الذي يلي، سلفاً.

تعاضد التجار

كثيراً ما نجد تعبير مركنتيلية يلصق كيفما كان بالتجربة الاقتصادية اللبنانية. والمركنتيلية إن كان لها مغزى لربط هذه التجربة بها فلجهة أنها نظام سابق على تشكل السوق الرأسمالية بالشكل الذي عرفته في القرن التاسع عشر، في «العصر الليبرالي». المركنتيلية مستقاة من المفردة الإيطالية مركنتي، أي تاجر. والمركنتيلية بمعناها البحت هذا لن تعني سوى تاجر يخضع كل شيء لنهم الكسب، الكسب بمعناه الأكثر آنية والأضيق. من دون استشراف لما ستكون عليه الحال غداً. وفي هذا، يمكن القول طبعاً أن سلامة نموذج متقدم في تكريس المركنتيلية، بمعناها الإتيمولوجي إذاً. لكن المركنتيلية تاريخياً قلما اقتصرت على هذا المعنى الإتيمولوجي. معناها الإصطلاحي ارتبط بمذاهب اقتصادية في بداية تحول المجتمعات الأوروبية نحو الرأسمالية. في مرحلة كانت تلوح فيها بشائر الثورة الصناعية، ولم تدخل بعد عصر تحولاتها الأعمق والأوسع. المركنتيلية كتوجه اقتصادي هنا صار لها معنى مختلف إلى حد كبير عن أصل الكلمة الإيطالية. لم تعد مجرد كلمة واصفة لما يطلق عليه بسهولة هنا أو هناك «جشع التجار». صار تصوراً اقتصادياً يقضي بتعاضد صاحب الإمرة في مدينة أو بلد ما مع التجار، وتعاضد التجار مع بعضهم البعض، لأجل ما فيه خير التجارة، وخير البلد أو المدينة المفترض أن سيتأتى من خلاله. لكن في الوقت نفسه، هذا التعاضد من أجل التجارة كان يقيم المبدأ النقيض لما سيوصف بعد ذلك بحرية التجارة. في التعاضد المركنتيلي بين الدولة والتجار، يجري تفادي التزاحم قدر الإمكان، من أجل أن تتصرف الدولة وطبقة التجار كشركة ضمنية متعاونة. حتى هنا يمكن القول أن المركنتيلية تطابق الصيغ الاقتصادية المتعاقبة في لبنان منذ العشرينيات من القرن الماضي إلى اليوم. لكن الاختلاف سيظهر من جهة أن المركنتيليين في القرن السابع عشر مثلا كانت لهم وجهة نظر سديدة في كيفية إغناء ثروة المملكة التي يعملون لأجلها. يكون هذا بحسبهم بتخفيض الاستيراد قدر الإمكان، ورفع التصدير قدر المستطاع. وهذا ليس النموذج اللبناني، المتراوح بين نغمة تربط البلد بوظيفة مزدوجة، الاستيراد وإعادة تصدير ما جرى استيراده، أي الترانزيت، وبين واقع محكوم قبل كل شيء بالعجز الضاري في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات، يقابله في الاتجاه المعاكس، قوة حركة تحويل رساميل اللبنانيين الموجودين في الخارج باتجاه البلد، الأمر الذي استثمر فيه سلامة والسياسات المالية والمصرفية التي ارتبطت بأسره، ذلك أن أزمة «اختفاء» الودائع «حتى أجل غير محسوب» أصابت أوساطا واسعة من الدياسبورا اللبنانية التي كانت فوائد المصارف اللبنانية مغرية لها أكثر من أي مصرف خارج لبنان.
من زاوية تقليل الواردات ورفع الصادرات، ليس الاقتصاد اللبناني مركنتيليا في شيء. لكن هذه لا تعني سلامة، بل تعني السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة. ما يعنيه هو المقلب المصرفي من المركنتيلية. أو لنقل العمل على جذب المال ليأتي إلى المصارف اللبنانية من الخارج، بدلا من ترك المال يفرّ من لبنان إلى الخارج.
يجدر التذكير أيضا ان المركنتيليين كانوا يشددون على أهمية احتياط الذهب، وهذا له ترجمة لبنانيا وجود كتلة ذهبية كبيرة في المصرف المركزي نسبة إلى اقتصاديات البلد، وعلى الرغم من تزايد الشكوك بأنه سوف يتم اللجوء في مراحل متقدمة من الأزمة إلى تسييل الذهب، إلى أن هذه لم يصل إليها رياض سلامة، الذي يعد حؤوله دون افلاس المركزي ودون اضطراره لبيع الذهب بمثابة صك تبرئة له من كل التهم التي وجه إليه والملاحقات التي تبعت، في أوروبا، وصولا إلى شموله بالعقوبات الأمريكية بعد أيام على مغادرته الحاكمية.

الهروب إلى الأمام

غادر سلامة المنصب الذي شغله لثلاثين عاماً، ودخل في سجل المعاقبين أمريكيا إلى جانب الأسماء «الممانعاتية». بالتوازي، دخلت المصارف الخاصة اللبنانية في دراما ممانعة على طريقتها ضد صندوق النقد الدولي. في معظم بلدان العالم، يأتي معظم النقد على صندوق النقد من طرف المنددين أساسا بالنيوليبرالية، إلا في لبنان. المصارف الأكثر اصطباغا بلون الأوليغارشية هي التي تقود التعبئة ضد صندوق النقد وتكاد ترى فيه ذراعا للأممية الشيوعية.
وهذا غيض من فيض يذكرنا بكم أن مفردة نيوليبرالية تطلق بلا حساب هنا وهناك. النيوليبرالية مثلا، كان لها مع فريدريش فون هايك وميلتون فريدمان موقف في غاية التحفظ على استقلالية وسطوة المصارف المركزية. النموذج اللبناني هو على هذا الصعيد أبعد ما يكون عن النيوليبرالية، وليس فقط عن الليبرالية (حرية التجارة). المصرف المركزي فيه يقود جهاز رأسمالية دولة، وتنمحي من خلاله الحدود الفعلية بين قطاع عام وقطاع خاص. يبدو الأمر كما لو ان المصرف المركزي يقود «جبهة وطنية» مشكلة من أعضاء جمعية المصارف. النموذج اللبناني يقوم على دور فوق العادة للمصرف المركزي، وهذا من قبل سلامة، إلا ان سلامة واطالته في السدة رسخت ذلك. أخصام سلامة الذين جمعوا بين التنديد به وبين التكيف مع استمراره كل هذه المدة لعبوا دورا أساسيا في صناعة الهالة حوله. لكنه الآن يخلي مكانه، كما حصل لميشال عون في رئاسة الجمهورية، ولعباس ابراهيم في الأمن العام ولكافة أصحاب المناصب الحساسة والعليا في الدولة إذا استمر الشغور والفراغ.
في المقابل، موغور ايسارسكو باق في مكانه على رأس حاكمية المصرف المركزي في بوخاريست. ساهم في نقل رومانيا من اقتصاد موجه ومؤدلج إلى اقتصاد السوق مع اجتناب العلاج بالصدمات. سلامة برع في المقابل بعلاج «الهروب ثم الهروب إلى الأمام». في مقابلة له منذ فترة، يقول ايسارسكو انه في الزمن الذي تولى فيه المنصب تطور مفهوم حاكمية المصرف المركزي من العمل على استقرار الأسعار، بما في ذلك سعر صرف العملة الوطنية، إلى العمل على الاستقرار المالي بالمعنى الأشمل. سلامة قنع نفسه بلعبة أخرى: استقرار احتياطي المصرف المركزي يبرر كل شيء آخر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية