بين سوء التوزيع للمواد المدعمة وعدم القدرة على توفيرها أزمة الخبز تعمّق معاناة التونسيين اليومية

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: بات مشهد طوابير المواطنين أمام المخابز للحصول على الخبز أو «الباقات» أمرا مألوفا في تونس، فالمواطن بات يعيش معاناة يومية في سبيل الحصول على الخبز الذي يشكّل أهمية كبرى في حياته. وتتواصل الأزمة منذ أشهر بلا حلول عاجلة وفورية وتتداخل فيها أسباب داخلية وخارجية، حتى أن البعض ذهب إلى اعتبار أن السبب الرئيسي والخفي لإقالة رئيسة الحكومة نجلاء بودن مؤخرا هو عجز حكومتها عن توفير الخبز على مدار اليوم وبالكميات المطلوبة، إضافة إلى عوامل أخرى عجّلت بإقالتها.

لقد أصبحت عبارة «الخبزة» في العامية التونسية مرادفة لكلمة «المعيشة» وأصبح البعض يعبّر عن ذلك بمقولات من قبيل «الخُبزة مُرَة» أي أن المعيشة صعبة وطعمها مر، أو أن فلانا «يجري على الخبزة» أي يعمل ليل نهار من أجل معيشته. ونظرا لهذه الأهمية فقد قامت ثورات في تاريخ تونس، بسبب فقدان الخبز أو نقصانه أو عدم القدرة على اقتنائه لعدم توفر المال بسبب كثرة الجباية، مثل ثورة علي بن غذاهم في العهد الملكي والتي تسببت الأحداث الناتجة عنها في تعليق العمل بدستور المملكة التونسية لسنة 1860.
كما لم تشفع للزعيم الحبيب بورقيبة مشروعيته النضالية ضد الاستعمار الفرنسي وبناء دولة الاستقلال فقامت ضده ثورة الخبز سنة 1984 التي أدت إلى أفول نجمه ومهدت لسقوطه لاحقا وذلك بسبب رفعه في سعر الخبز. وكثيرا ما ردّد الرئيس قيس سعيد بأنه يرفض شروط صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن المواد الأساسية حتى لا يحصل في البلاد ما حصل في أحداث الخبز الدموية سنة 1984.
فالعارف بتاريخ تونس الحديث من السياسيين يتجنب المساس برغيف الخبز ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لأن الماضي القريب يؤكد أن التونسي لا يتسامح مع معيشته أو بعبارة أدق مع خبزه، والويل لمن لا يستطيع توفيره له. ولا تهم التونسي الظروف العالمية، ولا صعوبة التزود بالقمح في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، ولا الجفاف الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة والذي أعاق البرامج التي وضعت لرفع الإنتاج المحلي من الحبوب، ما يهمه هو وجود الخبز وبسعر مقبول وعلى من يحكمه أن يتصرف ويجد الحلول ما دام يتمتع بامتيازات السلطة.
والحقيقة أن رئيس الحكومة الجديد أحمد الحشاني لا يمتلك عصا سحرية لإيجاد حل نهائي وحاسم لهذه المعضلة باعتبار أن إنتاج تونس من الحبوب هو أساسا من القمح الصلب الذي يذهب لصناعة الكسكسي والمعكرونة وغيرها، بينما يُصنع الخبز من القمح اللين المستورد. ومع الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع سعر القمح اللين وفشل البرنامج الذي تم وضعه لتطوير إنتاج البلد من القمح اللين أصبح من الصعب تجاوز هذه المعضلة على المدى القريب.

المخابز غير المصنفة

ويرى البعض أن السبب الرئيسي في أزمة الخبز هو وجود ما يسمى بـ«المخابز غير المصنفة» وهي في الأصل محلات لصنع وبيع الحلويات تحصل على الطحين المدعّم من الدولة فتصنع بها الخبز وتبيعه بسعر مرتفع وهو ما يجعل ضعاف الحال يهجرونها إلى ما يسمى «المخابز المصنفة» وهي مخابز أصلية لا تصنع ولا تبيع سوى الخبز، ويكون ذلك بسعر منخفض حددته الدولة. فيحصل الاكتظاظ على المخابز المصنفة التي تصبح غير قادرة على تلبية الحاجيات باعتبارها تقتسم الطحين المدعّم مع المخابز غير المصنفة في حين أنها توفر الخبز لأغلب المواطنين.
لذلك يرى البعض أن الحل يكمن في عدم تمكين المخابز غير المصنفة من الطحين المدعّم والاقتصار على تمكينها للمخابز المصنفة حتى توفر الكميات الكافية من الخبز ويتم تجنب الطوابير الطويلة للمنتظرين. كما يرى البعض الآخر أن الحل يكمن في مراقبة الدولة للمخابز غير المصنفة حتى تبيع الخبز بسعره الحقيقي المحدد من قبلها فيقبل عليها ضعاف الحال ويتم تخفيف العبء على المخابز المصنفة وتزول أيضا الطوابير الطويلة أمام المخابز المصنفة.
وبالتالي يرى هؤلاء أن سبب أزمة الخبز الجديدة هو سوء التصرف من قبل الفريق الحاكم الذي كان عليه منذ البداية تجنب هذه المعضلة إما بتوزيع الطحين المدعّم على المخابز التي تبيع بالسعر الحقيقي دون سواها أو مراقبة المخابز التي ترفع الأسعار. لكن ذلك لم يحصل وتم توجيه الأنظار بعيدا من خلال التمادي في تحميل المسؤولية إما لحكام العشرية السابقة وللمضاربين والمحتكرين، وإن كانوا موجودين لكنهم غير مؤثرين بالقدر الذي يتحدث به «أهل السلطة».

أزمة هيكلية

ويرى الخبير الاقتصادي التونسي معز الجودي في حديثه لـ«القدس العربي» أن أزمة الخبز في تونس عميقة وهيكلية وليست ظرفية، والمتسبب الرئيسي فيها هي السلطة القائمة في البلاد. فالمواد الأساسية التي تستحقها المخابز المصنفة وغير المصنفة، ومنها مادة الطحين، التي هي مادة مدعمة في تونس والدولة تحتكر توريدها وبيعها للمخابز، موجودة بكميات محدودة، حسب محدثنا، لأن الدولة في حالة عجز آلي ولا قدرة لها على توريد كل الحاجيات.
فهناك أيضا حسب الجودي، كميات من الأدوية غير موجودة في الصيدليات، وهناك مواد أساسية غير موجودة في المسالك المختصة، وهناك صناعيون يشتكون من غياب مواد أساسية وأولية، وفيما يخص الطاقة والمحروقات هناك نقص في التزود، وهناك نقص في مواد غذائية مثل السكر والطحين والقهوة والشاي لأن الدولة عاجزة عن توفير هذه المواد بسبب الصعوبات المالية التي تمر بها. كما أن تونس لم تمض اتفاقا مع صندوق النقد الدولي والمسؤول الأول عن هذا، حسب الخبير الاقتصادي التونسي هو السلطة التنفيذية لأنها إلى حد الآن لم توضح الرؤية مع صندوق النقد الدولي.
فحكومة نجلاء بودن توصلت، حسب الجودي، إلى اتفاق تقني مع الصندوق والرئيس رفض هذا الاتفاق والتعامل مع الصندوق بتعلة أنه لا يمكن الإذعان لإملاءاته لأنها لا تتماشى مع انتظارات التونسي. ويؤكد محدثنا أنه لا توجد إملاءات من الصندوق، بل توجد اتفاقات مع حكومة نجلاء بودن من أجل إصلاحات يجب أن تتم في تونس، بعضها مؤلم وموجع لكنها ضرورية لأن الحكومات منذ 14 كانون الثاني/يناير 2011 لم تحسن التصرف في دواليب الدولة وأغرقت البلاد في الديون وتسببت في عجز الميزانية وهذا انجرت عنه صعوبات مالية جعلت تونس تذهب إلى صندوق النقد الدولي في عدة مناسبات ومنها هذه المناسبة لأنه يمول بشروط أقل إجحافا من السوق المالية من حيث الضمانات ونسبة الفائدة.
كما أن ضعف الموارد الخارجية خلق، حسب محدثنا، نقصا في العملة الصعبة وفي إمكانيات الدولة في توريد المواد الأساسية، ولذلك نشأت أزمة الخبز. أما باقي التعلات، بحسب الخبير فهي واهية ولو توفر الدولة المواد الأساسية ستنتهي أزمة الخبز.
ويضيف محدثنا قائلا: «في إطار الحلول لا بد أن نكف عن المبالغة في دور الدولة، ومن الإصلاحات العميقة التي يجب القيام بها في تونس إعادة النظر في دور الدولة، لماذا تحتكر الدولة تعاملات هذه المواد الأساسية من حيث التوريد والبيع؟ لماذا لا تترك القطاع الخاص والفاعل الاقتصادي التونسي يقوم بالمتاجرة في المواد الأساسية فتكثر المنافسة التي تخلق الجودة؟ لماذا لا يتم تحرير المبادرة وترك صاحب محل المرطبات أو المخبزة يستورد بنفسه ولا يبقى مرتبطا باحتكار الدولة التي لها حدودها في القدرة على الإيفاء بتعهداتها؟
ليس من المعقول أن تدعم الدولة مواد أساسية بعد أن وصلت اعتمادات الصندوق الدعم في سنة 2020 إلى 11 مليار دينار لتفوق بذلك ميزانية الاستثمار العمومي المغيب بسبب الدعم. فتونس تمر اليوم بصعوبات مالية ورغم ذلك تسمح لنفسها بأن يكون لديها صندوق دعم تتجاوز ماليته 11 مليار دينار في وقت لم تعد فيه الدول الغنية تدعم المواد الأساسية والمنتوجات والمواد الاستهلاكية.
لا بد من إعادة النظر في مسألة الدعم وإعطائه لمستحقيه مع إعادة النظر في الأسعار رغم أن ذلك قد يؤدي إلى التضخم. فالخبزة على سبيل المثال تباع اليوم بـ190 مليما أي 0.19 دينار أي ما يعادل 0.06 دولار وهو سعر ضئيل جدا وأقل بكثير من كلفة الإنتاج والفرق يموله صندوق الدعم في دولة عاجزة». ولا يعتقد الخبير الاقتصادي أن أزمة الخبز هي من أسباب إقالة رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن، بل أن هناك أسبابا أخرى منها أنها لم تتوصل إلى أي نتيجة في أي ملف من الملفات وتميز أدائها بالضعف والعجز عن القيام بأي إصلاح. لكن الجودي يؤكد على أن رئيس الحكومة في تونس لم تعد لديه صلاحيات كبيرة مقارنة برئيس الجمهورية وذلك حسب الدستور الجديد، فهو عضو حكومة منسق للعمل الحكومي لا غير، وليست لديه هوامش كبيرة للتحرك ولا سلطات كبيرة ويقتصر على تطبيق تعليمات رئيس الجمهورية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية