«نفوذ»… كلمة كنت أحبذ أن افتتح بها المقال بالعودة إلى منطقة النفوذ الفرنسية التقليدية في القارة السمراء: الساحل. لكن كلمة «نفوذ» تبدو نفسها متجاوزة إذا أسندناها إلى زاوية التحليل الصحيحة من الآن فصاعدا ألا وهي «تراجع النفوذ» والإشكالية التي تتبعها: «ماذا بعد»؟
أصدرت صحيفة لوموند الفرنسية في عدد الأحد المنصرم السادس من أغسطس/آب دراسة حملت عنوان «نهاية التمرد المضاد» أرفقتها بعبارة «نهاية حلقة». تكرس الدراسة فكرة نهاية نظرية حماية الدول من «الجماعات المتمردة التي تتربص مواطن خللها لاستهداف استقرارها». وثمة سعي لتطبيق هذه النظرية التي تحمل اسم «التمرد المضاد» على إشكالياتنا الراهنة من قبيل ضمان الاستقرار الأمني، مكافحة الإرهاب، وتكريس سيادة الأمم.
في العام 1964، أصدر الليوتنانت – كولونيل الفرنسي دافيد جالولا كتاب «التمرد المضاد: نظر وتطبيق» نشره في الولايات المتحدة، ثم صار للكتاب صيت حفز المدرسة العسكرية الأمريكية على الربط بين التدخل العسكري والإصلاح الأيديولوجي والسياسي على أساس ثلاثية ستشتهر فيما بعد تحت مسمى «تنظيف، إمساك، تأسيس» تجسد فكرة أن على العمليات العسكرية أن تعبّد الطريق أمام تأسيس الدولة.
ويصف صاحب الدراسة هذا المبدأ بـ «صندوق الأدوات « الذي يسمح بـ «كسب عقول الشعوب وقلوبها» قبل الدخول في مرحلة «رعاية الدولة». لكن تطبيق مثل هذه النظرية في عهدنا الحديث يفرز عن تناقضين تفككهما الدراسة جيدا عندما تذكرنا بالتناقض الأول الكامن في المفارقة التاريخية وليدة التخطيطات الكولونيالية التي وضعها الجنرال جالييني والمارشال ليوطي لإتمام العمل العسكري بالمشروع الأيديولوجي والسياسي والذي يراد له في نهاية المطاف تجفيف منابع المقاومة لتثبيت الدولة الحديثة. لكن إطار التفكير الذي جاء تزامنا مع كتابة هذه النظرية كان يندرج، كما يرى المحلل الأمريكي مايكل شركين الذي عمل في وكالة المخابرات المركزية سابق (CIA) في إطار دعم شرعية نظام كولونيالي مستدام». لم نكن نتحدث حينها عن مغادرة قوى ولا عن جداول انسحاب عكس ما يحدث اليوم.
ثمة سعي لتطبيق نظرية «التمرد المضاد» على إشكالياتنا الراهنة لضمان الاستقرار الأمني
على سبيل المثال لا الحصر أبدا، عندما أعلن باراك أوباما عن دعمه للقوات الأفغانية النظامية حدد في الوقت ذاته أن «العودة إلى البيت» ستتم في غضون الثمانية عشر عاما الموالية. وقد جعل هذا السياق المحللين يتحدثون عن «أفغنة» الحرب، أي تسليم زمام القيادة العسكرية للأفغان أنفسهم، فما بال سكان القرى – يتساءل كاتب الدراسة – يضعون ثقتهم في عسكريين أجانب معروف عنهم رحيلهم عاجلا أو آجلا؟
وتفرز فكرة دعم السيادة الوطنية للدول واستقرار منطقة تناقضا آخر يبرزه جيدا إرسال القوات متعددة الجنسيات حيث لا تكون قياداتها المشتركة مشتركة بالفعل لتعدد مراكز القرار. فلو أخذنا حالة الساحل يبدو واضحا أن قوات برخان وبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي ومجموعة دول الساحل الخمس وقوات تاكوبا (التي تم حلها في العام 2022) كلها تتبع قيادة بعينها، ما يضعف في الصميم سلطة الدول التي تستقبل هذه القوات. يضيف شوركين الذي يقتبس منه صاحب الدراسة أن «معالجة جذور التمرد تستوجب تجديدا للعقد الاجتماعي» لكنه «عقد» ينظر إليه على أنه «تدخل من الدولة الشريكة» وهذا صحيح تماما.
حينها، تفقد الدولة من سيادتها وهيبتها معا، والدليل القاطع انفصال حميد كرزاي في أفغانستان عن «الراعية» الأمريكية… الراعية ذاتها التي كانت قد نصبته في هذا المنصب. الكل يتذكر تصريحه «لن ينتهي بي الأمر إلى أن أكون من الكراكيز» ما جعل كرزاي يعترف، متحديا داعميه، بضم روسيا لجزيرة القرم في العام 2014. أما فرنسا، فلا يزال عالقا في الأذهان تدخلها في ليبيا للإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا وهي عملية، حسب كاتب الدراسة، «أزاحت الاستقرار عن الساحل كاملا». فلا وجه للاستغراب إذا كانت شركة فاغنر أصبحت تنشط في المنطقة.
وعندما يرى كاتب المقال أن على المنظرين أن يستوعبوا الدروس من «فشل نظرية التمرد المضاد في افغانستان ومنطقة الساحل» يلفت النظر في نفس الوقت إلى العجز عن حل التناقض بين صياغة الدولة الديمقراطية – الحديثة على المقاس الخارجي وقيام الدولة بمهامها من جهة، وبين ادعاء تعزيز سيادة الدول بالاعتماد على قيادات متفرقة وتشتيت القيادات الوطنية بها من جهة أخرى.
التناقض، وهو ما لا يقوله كاتب الدراسة، قابل للحل شريطة تنفيذ سياسات دعم اقتصادي قائمة على التنمية الفعلية، لا المراوغة الاستغلالية. لكن لا حياة لمن تنادي. زد على ذلك رسالة صدرت عن مجلس الشيوخ الفرنسيين تندد فيها بـ «فشل عملية برخان» وتدعو رئيس الجمهورية الفرنسية إلى إعادة النظر في سياسة فرنسا في افريقيا.
كما كنا نتحدث عن الإمبراطورية العثمانية بوصفها الرجل المريض لأوروبا، تظل القارة السمراء «الرجل المريض» لمستعمريه السابقين الذين لم يفهموا بعد أن سر التقدم والنجاح يمكن في العمل بمنطق «خيرها بغيرها».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي