ثوّار «التيك توك»: جنون القطيع أبعد من الجوع!

حجم الخط
0

اندلعت في قلب شارع أوكسفورد في العاصمة البريطانيّة لندن اضطرابات الأسبوع الماضي، تمت الدّعوة إليها عبر موقع “تيك توك”، شارك فيها مئات المراهقين، على نحو استدعى تدخّل قوات الشرطة وإغلاق المحلات لأبوابها على المتسوقين في منطقة “واست أند” المعروفة باكتظاظها بالسياح والمتسكعين.
ونقلت محطات التلفزيون والمواقع الإخباريّة على الهواء مباشرة مشاهد من الفوضى، التي استهدفت نهب محل تجاري معروف لبيع الملابس الرياضيّة الفاخرة، قبل أن تتدخل قوة كبيرة من البوليس البريطانيّ، وتفرّقهم بالقوّة وتعتقل تسعة أشخاص على الأقل. وسائل الإعلام قالت إن مقاطع فيديو نشرت على موقع “تيك توك” للتواصل الاجتماعي، دعت الشبان إلى التّدفق على المحل المعروف والتسبب بالفوضى، التي تغطي عادة على أعمال النهب، وتؤدي إلى تخريب المصالح التجاريّة وتعطيلها ما يضاعف من الخسائر. وتعرضّت عدة متاجر ومطاعم في المنطقة لاعتداءات تسببت في إرهاب مرتاديها.
وقد دعت جمعيّة مفوضي الشرطة، التي تعنى بمحاربة الجريمة في المجتمع، السلطات إلى محاسبة أهالي المراهقين المتورطين في مثل هذه السلوكيات الإجرامية المتفلتة، قبل أن تتضخم هذه الظاهرة وتتحوّل إلى “انهيار مجتمعيّ كامل”، فيما أدان رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ما أسماه بـ”جنون وسائل التواصل الاجتماعي”، الذي أدى إلى الفوضى والطريقة الإجراميّة، التي تم بها تنظيم النهب وتعطيل المصالح، ووصفها بأنها “مروعة” و “غير مقبولة”، وأكّد في حديثه لمراسلي التلفزيون على أن المتورطين يجب أن يواجهوا “القوة الكاملة للقانون” وأنّه “يدعم تماماً الشرطة في تقديم هؤلاء الأشخاص إلى العدالة، لأن هذا النوع من السلوك غير مقبول ببساطة في مجتمعنا”.

قبل لندن: نيويورك وباريس وكييف والقاهرة

بالطبع، فإن حادثة “أوكسفورد ستريت”، كنمط للسلوك الاجتماعي المتمرد، الذي تتم استثارته عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، ربما تكون الأولى بهذا الحجم، وفي موقع بهذه الحساسيّة وسط العاصمة. لكّن مشاهد مماثلة نقلت على الشاشات قبلها لتجمعات فوضوية من وسط نيويورك في الولايات المتحدة، كما في باريس خلال الانتفاضة الأخيرة، بعد مقتل شاب من أصول عربيّة على يد الشرطة الفرنسيّة. وتقول تقارير السلطات في البلدين إن الدّعوات للتوجه نحو موقع معيّن والاستفادة من الفوضى الحاصلة عبر تدفّق المراهقين عليه للقيام بأعمال نهب توجه عبر موقع “تيك توك”.
ويبدو أن الحكومة الفرنسيّة اضطرت وقتها لفرض حظر جزئي على خدمة الإنترنت في بعض المناطق. دونا جونز، رئيسة جمعية مفوضي الشرطة وصفت حادثة شارع أوكسفورد بأنّها “لم تظهر هكذا من العدم”، بل أن الأمر كان متوقعاً بالنظر إلى “ما شاهدناه يحدث في الولايات المتحدة. وما يحدث هناك غالباً ما ينتقل إلى بريطانيا في غضون 12 شهراً”. لكن السيّدة جونز لم تشر إلى أن السلطات الأمريكيّة هي من شجعت على التأسيس لهذه الظاهرة، عندما دفعت في اتجاه استخدام فيسبوك وتويتر للتحشيد خلال الثورات الملونة طوال العقد الماضي من “ربيع” القاهرة إلى “ميدان” كييف. ومن المتوقع الآن أن تستمر هذه الظاهرة وتتنقل بين أحياء العاصمة ومدن مكتظة أخرى عبر الجزيرة البريطانية، لا سيّما وأن اعتقال بعض الشّبان لم يحل دون تجدد الدعوات عبر “تيك توك” للتوجه إلى بلدة إيسكس الساحليّة والتجمع هناك ما استدعى إغلاق الموقع، واعتقال بعض المتوجهين إليه تجنباً للأسوأ.

أبعد من الجوع: دوافع ثورة جيل «تيك توك»

ما الذي يدفع هؤلاء المراهقين إلى الانخراط في هذا السلوك الإجرامي الجماعي والمخاطرة بالاعتقال، أو حتى الإصابة بمجرد توجيه دعوات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هذا التساؤل الآن على كل لسان في المجتمع البريطاني، واستدعت من أجله التلفزيونات خبراء من مختلف المجالات، أمنية وتعليمية وسيكولوجية، لا سيّما وأن الشرطة البريطانية تحدثت عن معاقبة آباء المراهقين من سن 16-18المعتقلين على هامش هذه التحركات الطائشة.
ربما يكون من المنطقيّ ربط الأمور بتردي الظّروف الاقتصادية للعائلات في الطبقات الوسطى والعاملة، بسبب الركود الاقتصادي وتضخم الأسعار والتراجع الملموس في القيمة الفعليّة للأجور والتقديمات الاجتماعيّة، وهي أمور تراكمت تأثيراتها منذ الأزمة الماليّة في 2008، وأخذت أبعاداً قياسيّة بعد نشوب الحرب الاقتصادية بين الغرب وروسيا، بدءاً من أوكرانيا. ولا شكّ أن الضغوط التي يتعرّض لها المراهقون عبر وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها لاستهلاك الماركات التجاريّة الفاخرة تجعلهم، في ظل تقلّص إمكانات عوائلهم، أشجع على المغامرة في إطار القطيع الهائج للحصول على تلك البضائع مجاناً.
لكن “الجوع” وحده لا يبدو قادراً على تفسير أشكال جنون جماعيّ أخرى يقوم بها المراهقون، بناء لتوجيهات يتلقونها على وسائل التواصل الاجتماعيّ. فمثلاً تحدثت الشرطة البريطانيةّ عن حفل جنون جماعي لتناول الباراسيتمول من قبل مراهقين في مدينة ساوثهامبتون، نتيجة لتحد مزعوم على “تيك توك” لمن يبقى في المستشفى نتيجة لذلك لوقت أطول! ومن المعروف أن المبالغة في استخدام مسكن الباراسيتمول يمكن أن يتسبب بأضرار فادحة للكبد. ونقلت التلفزيونات عن متحدث باسم بلدية ساوثهامبتون أن المراهقين الذين نقلوا إلى المستشفيات تراوحت أعمارهم بين 15-17 وتسببوا في ضغط غير مسبوق على خدمة الشرطة والإسعاف في منطقة وسط المدينة، التي تقع إلى الجنوب الغربيّ من لندن. ووصف أحد المتخصصين بسايكولوجيا المراهقين أن هؤلاء التعساء يبحثون عن الإثارة والمتعة في حياتهم عبر الانخراط في تحديات جماعية يديرها منحرفون على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا شكّ أن في جعبة أمثال هؤلاء “المنحرفين” أفكاراً أخرى خلاقة لتوريط المراهقين في مزيد من النشاطات العدوانية واللا أخلاقية والمقلقة، ويتوقع تالياً أن تتمدد هذه الظاهرة بسبب الانتشار المتعاظم لوسائل التواصل الاجتماعي إلى أماكن أخرى، سواء في أوروبا أو حتى في دول العالم الثالث، حيث قدرة السلطات قد تكون محدودة على التعامل مع هذا النوع المستجد من الجنون.

الشرطة تلوم الآباء وتتهم شركات التكنولوجيا

خبراء الأمن وجهوا لومهم في هذه الظاهرة إلى الآباء والأمهات الذين يغفلون عمّا يشغل أبناءهم المراهقين، وطالب أحدهم السلطات علناً بإرسال رسالة واضحة للجميع بأن هذه السلوكيات غير مقبولة من خلال “محاسبة الوالدين”. كما اتهموا شركات التكنولوجيا الكبرى التي تدير مواقع للتواصل الاجتماعي بالإهمال وانعدام المسؤولية تجاه المجتمعات.
وفي الحقيقة فإن بعض الأسر قد تستحق اللّوم، لكن أيّا من الآباء أو الأمهات الذين لديهم أو مرت بهم تجربة تربية مراهقين في هذه الفترة من العمل يدركون صعوبة التّحكم في ما يتعرّض له المراهقون من تأثيرات سلبيّة، ليس على مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل عبر وسائل الإعلام، ودور السينما، والمدارس، ناهيك عن ضغوط الرفاق والأصحاب. ما يجعل إثبات البعد الجرمي هنا مستحيلاً، وقد تتحوّل العقوبات التي قد تفرض على الآباء بسبب مشاركة أبنائهم في حفلات الجنون الجماعي هذه إلى دافع انتقاميّ آخر لمزيد من التمرد ضد المجتمع، أما شركات التكنولوجيا فهي تنفي رسمياً تقصيرها.
وقد نقلت الشاشات البريطانية عن متحدث باسم “تيك توك” أن “السلطات البريطانية لم تزود شركته بأي دليل يدعم الادعاء بتنظيم هذه الأنشطة الإجراميّة عبر الموقع الأكثر شعبيّة بين مراهقي المملكة المتحدة، وقال إن شركته “توظّف أكثر من أربعين ألف شخص لأغراض السلامة ولديهم صلاحيات لإزالة أي محتوى من هذا النوع بالتعاون مع الجهات الأمنية المعنية”.

فتش عن الرأسماليّة

لا بدّ أن الظاهرة ترتبط بالعديد من العوامل المتداخلة، ويصعب بالفعل عزل مسبب واحد لها. لكّن الأكيد أن هيمنة ثقافة الاستهلاك الرأسمالي وانتشار القيم الليبرالية الفرديّة المنحلّة وغياب العدالة الاقتصادية قد أضعفت تماسك المجتمعات الغربيّة، وسهلت لوسائل التواصل الاجتماعي تحوّل الأجيال إلى قطعان يسهل توجيهها. وعندما تصل هذه المجتمعات إلى لحظة الانهيار، ستجد أن العلّة كما كانت دائماً، الرأسماليّة المتوحشة.
٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية