يذهب إلى النيل، يهم بالجلوس على كرسي الكافتيريا البلاستيك فيتذكر أن وكالة ناسا هي من اخترعت هذا الكرسي بهذه الوضعية المريحة. شكرا ناسا، كتر خيرك.
فرصة جيدة للراحة والتأمل، الساعة ساعة عصاري رائقة، والماء، والخضرة، والوجه الحسن، لأن الوقت لا يخلو، وإذا خلا الوقت لا يخلو البال، وإذا خلا كليهما، خلا الجيب. تقترب منه زوجته هامسة:
ألا تقل لي كلاما حلُوا؟
لا، هذي ساعة صمت وتأمل.
فتجيبه لا، المفروض أن لا تكف طوال جلستنا عن الكلام الحلو؟
بغض النظر عن طبيعة الكلام الحلو الذي لا يعرف كينونته، ولا مادته الخام، هل هو من نوعية أذكريني عند المغيب، أو لا ترحلي وتتركيني أم ماذااااا؟
لعن في سره الدراما والمسلسلات التركية والهندية التي أفسدت النساء في وطننا العربي، غالب غضبه، وبدأ في شرح نظريته عن الرجل المصري، الذي لا يجيد الكلام الحلو، فضلا عن عدم معرفته به، ومع ذلك يعيش كخادم لأسرته، يفعل المستحيل من إجل إرضائها، يعرف رجالا كانوا ينهارون من البكاء إذا مرضت زوجاتهم، هكذا يعبر المصري عن محبته وهو غالبا بيتوتي ومحافظ بطبعه، فأي كلام حلو يقال بعد ذلك؟
تتعجب زوجته من كلامه:
هل ستتفلسف من أجل طلبي كلمتي غزل؟
أنظر للناس من حولك.
ينظر للناس من حوله؛ على المائدة التي تليه، أم صفعت ابنتها الكبرى ونعتتها بالحيوانة، لأنها تركت أخاها الصغير يسقط من على الأرجوحة. على الطاولة الخلفية أسرة مصرية أصيلة، أخرجت ربتها طواجن محشي الكرنب، والجلاش والمخلل، وفي اللحظة ذاتها التي هموا فيها بالأكل، هبط عليهم كالقدر نادل الكافيتريا منبها إياهم إلى عدم إحضار المأكولات من الخارج. تحججت «الحاجة» بعدم المعرفة، وبما وقر في ظنها أن المكان للمشروبات فقط، بينما ابتسم رب العائلة ـ توحي هيئته بموظف ميسور على المعاش- «اتفضل كل معانا». بالطبع تفضل المجرم وباع قوانين الكافتيريا التي يعمل فيها بطبق من «فلين» عليه قطعة جلاش وجزء من فرخة، وقليلا من محشي.
وعند القضمة الأولى غمغم «مكانك يا حاج».
بينما كانت المائدة الأبعد قليلا هي الجديرة بالتأمل حقيقة، لا صفحة النيل ساعة العصاري. شاب وفتاة في فترة خطوبتهما؛ تشي الدبلتان في أصبعيهما بذلك.
جلست الفتاة منتصبة الظهر، بوجه ملأته بالأصباغ والمساحيق التي لا تتناسب مع فترة النهار، وبمشد صدر زاد حجم نهديها للضعف، وضعت ساقا على ساق فبرز فخذاها المكتنزان. وضعية لو دربتها المخابرات الأمريكية عليها لسحق هذا الشاب المسكين جنسيا لفشلت. مشكلة ما بينهما، حتما هناك مشكلة، كان الشاب يشوح بيده وينحني بصدره ورأسه على الطاولة في محاولات بدت مستميتة لإقناع الفتاة بشيء ما، بينما لاذت هي في جلستها الإيروسية بالصمت والنظرات غير المبالية. في عالم مواز آخر يجعر هذا الشاب في أخوته البنات فينسقن أمامه كالبط البلدي؛ بينما هنا وعلى هذه الطاولة هو مستعد لبيع كليته من أجل إرضاء «سالومي» هذه. مستعد لاستكمال النيش، ودفع فاتورة حفل الزفاف الباهظة، وعلى استعداد تام لأن يُرَكِبْ أمه علل الدنيا والآخرة من ضغط وسكر وخلافه، كي يبرر للفتاة تطجينها لها، وراجيا إياها أن تتحملها لأنها ست كبيرة على أبواب المورستان.
تمنى لو نصح الشاب؛ اصمت يا فتي وهدئ من روعك؛ هذه النوعية من المشاكل تحل بالامبالاة والتقادم.
أفاق على صوت زوجته:
نهارك أسود؟ إلاما تنظر؟ تنظر للفتاة؟ صح؟
تذكر مشهد من فيلم للراحل أحمد زكي كان فيه وكيل النيابة يوجه إليه تهمة السرقة، وقد أمسكت به الشرطة ويده على الخزانة فيراوغه أحمد زكي بطريقته المعتادة.
(على التلاجة يا بيه؛ كنت عطشان)
أنظر للصد….؛ لا أنظر لشيء…. الحساب يابني. توبة صادقة إن خرجت مرة أخرى ليذهب التأمل إلى الجحيم، ما الذي يدعو مواطنا بائسا يحيا في مستنقعات العالم الثالث للتأمل أصلا؟
كاتب مصري