من «الـ20» إلى الـ«بريكس»: قمم كونية تتناهب السفوح

حجم الخط
0

آلاف الأميال تفصل بين مدينة بتسبرغ الأمريكية (حيث انعقدت قمة مجموعة الـ20 الثالثة، أواخر أيلول/ سبتمبر، 2009)؛ ومدينة جوهانسبرغ الجنوب أفريقية (التي احتضنت مؤخراً القمّة الـ15 لمجموعة الـ«بريكس» المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا). وبمعزل عن مصادفات الحروف المشتركة في اسم المدينتين، ومشاركة في القمتين لدول أخرى ليست عضواً عاملاً في أيّ من المجموعتين (مثل السعودية والأرجنتين وأندونيسا)؛ ثمة فوارق شاسعة واسعة تخصّ انقسامات النظام الدولي، في الميادين الاقتصادية أوّلاً، وما يتفرّع عنها وبسببها من استطالات جيو ـ سياسية، لعلّ أوضح اختصاراتها مفاعيل عودة الحرب الباردة بأشكال جديدة وأنماط عابرة للانشطار التقليدي القديم بين كتلة غربية وأخرى شرقية.
وهذه سطور تولي أهمية عالية، حتى إذا بقيت محدودة التجسيد على أرض الواقع، لكلّ وأيّ جهد يسعى إلى تنويع الاستقطابات الكونية، أو الحدّ من القطبية الواحدة التي تتزعمها الولايات المتحدة وشركاؤها في الغرب. لكنّ توخّي الأهمية لا يصحّ أن يطمس حقائق الانقسامات العميقة، عمودية كانت أم أفقية، بين الدول الخمس المكوّنة لمجموعة الـ»بريكس» مقابل الوئام والتفاهم والتكامل بين الدول الأبرز والأكثر تقدماً ضمن مجموعة الـ20، من جانب أوّل؛ وأمّا من جانب ثانٍ، لا يقلّ تأثيراً على المنطق العامّ لاصطفافات مجموعات كهذه، فهو شهية هذه الدولة أو تلك ضمن الـ»بريكس» للحلول محلّ الولايات المتحدة في ممارسة الهيمنة والتفرّد والقطبية الأحادية.
ليس مفاجئاً، بالتالي، أن يحاول الرئيس الصيني شي جين بينغ تصدّر قمّة جوهانسبرغ حتى قبل انعقادها، والقيام بزيارة رسمية استباقية لجأ فيها إلى خطاب استنهاض الأمم الأفريقية ضدّ «نير الاستعمار» وتراث الحرب الباردة وتنزيه بلاده عن أيّ مطمع سوى الأخذ بيد الدول النامية نحو التطوّر والتقدّم. مدهش، في مقام أوّل شكلي لكنه ليس متجرداً من المغزى، أنّ تلك الخطبة (الإيديولوجية والتنظيرية، بامتياز) لم يُلْقها بينغ بنفسه، بل عهد بالمهمة إلى وزير التجارة في حكومته؛ لأسباب سوف تظلّ غامضة حتى يشاء الرئيس الصيني إماطة اللثام عنها. أم لعلّ عيار المجاز الثقيل في الخطبة (من طراز مناشدة الأمم «ألا تسير في نومها إلى هاوية حرب باردة جديدة»!) أو تصوير الصين كـ«قوّة استقرار» مضادة لـ«مبادرات محشوّة بالكلام المعسول المبهم» تتوجه نحو الدول النامية؛ هو الذي احتوى من المداهنة مقادير شاء بينغ ألا تُلصق بشخصه؟
من جانبه شاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يلقي كلمته بنفسه، عبر تقنية الفيديو، بسبب عدم حضوره جسدياً إلى جوهانسبرغ تفادياً لحرج مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية؛ غير عابئ بعواقب العيارات المجازية الثقيلة التي اتكأ عليها في تنبيه الأمم إلى أخطار حرب باردة جديدة، كانت وراء الحرب في أوكرانيا كما قال.
والرجل الذي تقصف قاذفاته المخابز والأسواق الشعبية والمشافي والمدارس ومخيمات اللجوء في الشمال السوري، والذي اجتاح أوكرانيا وضمّ جزيرة القرم ويلوّح بقضم المزيد في جورجيا، هو نفسه الذي يقول في خطابه: «نحن نتعاون على أساس مبادئ المساواة ودعم الشراكة واحترام مصالح بعضنا بعضاً، وهذا هو جوهر المسار الستراتيجي لمجموعتنا. وهو المسار الذي يلبي تطلعات القسم الأكبر من المجتمع العالمي، ما يسمى الأغلبية العالمية». بل هو، فوق هذا وذاك، زعيم الدولة التي سوف تحتضن قمة الـ«بريكس» المقبلة في قازان، تشرين الأوّل (أكتوبر) 2024، وتلك مفارقة أخرى إضافية إلى مسرح العبث الذي يكتنف غالبية القمم الكونية من هذا الطراز.

بوتين الذي تقصف قاذفاته المخابز والأسواق الشعبية والمشافي والمدارس ومخيمات اللجوء في الشمال السوري، والذي اجتاح أوكرانيا وضمّ جزيرة القرم ويلوّح بقضم المزيد في جورجيا، هو نفسه الذي يقول في خطابه: «نحن نتعاون على أساس مبادئ المساواة ودعم الشراكة واحترام مصالح بعضنا»

فإذا عاد المرء إلى قمّة «مجموعة الـ20» في بتسبرغ، فإنّ سمة المناخات العامة لم تكن إحياء أيّ رميم للحرب الباردة، بل على العكس كانت شيوع حال من الندب ولعق الجراح في أعقاب الأزمة العاصفة التي شهدت ما يشبه الانهيار التامّ للنظام المالي الكوني؛ وبدا جلياً أنّ الولايات المتحدة آخذة في التراجع المنتظم عن سياسات الحماية المتغطرسة التي سعت إلى فرضها على قمم سابقة في واشنطن ولندن. الأسباب كانت عديدة، على رأسها تناقض المصالح بين النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وأوروبا، وتعزّز مواقع الدول ذات الاقتصادات الناشئة في آسيا وأمريكا اللاتينية، والصين بصفة خاصة.
ولقد توفّر على هذا دليل بليغ تكفلت بتقديمه صحيفة «وول ستريت جورنال» حين أسدت إلى وزير الخزانة الأمريكي النصائح التالية: 1) لسنا في عقود الهيمنة، وتأزّم الاقتصادات الآسيوية، حين كانت الخزانة الأمريكية تسيّر اقتصاد الكون من خلال صندوق النقد الدولي؛ و2) لا مناص، استطراداً، من مراعاة مصالح اقتصادات الصين والهند والبرازيل، على حساب الحلفاء في أوروبا؛ و3) من الضروري منح هذه الدول قوّة تصويتية أعلى في اجتماعات صندوق النقد الدولي، على حساب حلفاء مثل فرنسا وألمانيا، وهذه المرّة عن سابق قصد، وبما يخدم مصالح الولايات المتحدة.
مصالح تطويق الأزمات البنيوية العميقة اقتضت، يومذاك، ما يشبه التلاؤم مع المعمار الوجودي لنشوء مجموعة (اقتصادية، جوهرياً) تضمّ الصين والبرازيل والهند؛ على نحو لا ينافس «مجموعة الـ20» بقدر ما ينتشل مصارفها العملاقة وبورصاتها المنهارة، ولتذهب الاعتبارات الجيو ـ سياسية إلى الجحيم، مؤقتاً على الأقلّ أو مرحلياً وبالتدريج. وثمة من ساجل، ليس من دون وجاهة منطقية في الواقع، أنّ البيت الأبيض أراد تثبيت قيمة رمزية خاصة حين اختار أن تكون مدينة بتسبرغ، عاصمة صناعة الفولاذ الأمريكية، هي التي تحتضن القمّة؛ بحيث يتذكّر الزعماء المشاركون أنّ اليد العليا ما تزال للصناعات الأمريكية، الثقيلة الكونية، والعملاقة العابرة للقارّات والأمم.
لم يكن مدهشاً، في المقابل، أنّ السحر انقلب على الساحر حين اتضح أنّ اضمحلال موقع المدينة على خريطة الاستثمارات الداخلية، ليس سوى التعبير الجلي عن صورة أخرى أعرض وأخطر هي اضمحلال الصناعات الأمريكية ذاتها على الخريطة الدولية. ليس أقلّ إدهاشاً أنّ الصين (التي تنبّه، اليوم، الأمم النامية إلى عدم المسير نائمة نحو الهاوية) حرصت على المساهمة النشطة في انتشال الاقتصاد الأمريكي من مآزقه، لا لأيّ اعتبار آخر يسبق حقيقة أنّ الدولار هو العملة التي تغطّي صادرات صينية بالمليارات.
وفي الخلاصات الجوهرية ذات الصفة النظرية، يُقال في تعريف الـ»بريكس» إنها مجموعة/ كتلة تستهدف تمثيل مصالح أمم ناهضة ونامية، وإطلاق نظام دولي جديد يُفترض أنه ينأى عن منظومات الحرب الباردة والكتلة الغربية الأمريكية مقابل الكتلة الشرقية السوفييتية. بعيداً عن التنظير، وأقرب إلى الواقع الفعلي، كانت هجمة كوفيد ـ 19 بمثابة الاختبار الأكثر جدية، أو بالأحرى التحدّي الملموس الميداني، لمدى قدرة المجموعة على التوحّد العملي والتكتل الإيجابي؛ خاصة وأنّ ثلاثاً من دولها المؤسِّسة (البرازيل والهند وجنوب أفريقيا) تصدّرت الدول الأكثر إصابة بالوباء. فهل اجتازت المحنة يومذاك، لجهة تصنيع اللقاحات وتأمينها لشعوبها أوّلاً، ثمّ للشعوب النامية الفقيرة تالياً؟ الإجابة ليست مخيبة للآمال فقط، بل هي ببساطة وجهة واقعية صارخة لتلمّس الحدود التي تُلزم الـ»بريكس» وتحجّم الأفعال في حقول اشتغالها المختلفة، في البنى التحتية التي تشمل اقتصاد الحياة اليومية وملفات الصحة والتعليم والتنمية…
وإلى حين فجر آخر يدشّن منطق عمل أكثر حيوية ونجاعة واستقلالاً، فإنّ قمم مجموعة الـ»بريكس» سوف تواصل التلاقي، بهذا المقدار أو ذاك، مع قمم «مجموعة الـ20»؛ على حساب غالبية ساحقة من الشعوب الأرض، التي في السفوح.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية