هذا الإقبال الفريد على تقديم طلبات الانضمام إلى جماعة «بريكس»، على نحو ما شهدته قمتها الأخيرة، يعكس رغبة حارة متزايدة في التحرر من مظالم النظام الاقتصادي العالمي، الذي وضعت أسسه وقواعده في «بريتون وودز» الأمريكية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشكيل المؤسسات المالية الحاكمة، كالبنك وصندوق النقد الدوليين، والتحكم في إدارة عملها من قبل واشنطن وتابعيها في «مجموعة السبع» الصناعية، بما أدى إلى استنزاف عجائبي مريع باسم منح القروض للمحتاجين، ووصول حجم الديون وفوائدها إلى ثلاثة أمثال الناتج العالمي الإجمالي، ودعم هيمنة الدولار كعملة احتياط عالمية، وإن تراجعت نسبتها بين عملات الاحتياط البديلة، من 71% نهاية القرن الماضي إلى 58% اليوم، لكن دوره لا يزال متضخما في المبادلات التجارية، وفي السيطرة على 40% من المعاملات عبر نظام «سويفت» البنكي، إضافة إلى تقويم نصف الدين العالمي بالدولار.
وقد يكون الطريق طويلا ومعقدا للوصول إلى هدف تفكيك هيمنة الدولار، فقوة الدولار ليست مقترنة بقوة اقتصاد أمريكا، وهو المثقل بديون فلكية، تجاوزت 32 تريليون دولار، كما أن الظروف التي منحت الدولار هيمنته، زالت أصولها الأولى، التي اعتمدت في البداية على غطاء ذهب أمريكي، كان كافيا وقتها لتمكين واشنطن من استبدال الدولار بالذهب، وبقيمة 35 دولارا مقابل أوقية الذهب، ومع بداية سبعينيات القرن العشرين، أعلنت أمريكا عجزها عن تلبية شرط استبدال الدولار بالذهب، وراحت تفرض هيمنة جديدة للدولار، لا تقوم على رصيد ذهبي، ولا على أساس إنتاجي يخصها، بل بالضغط على دول إنتاج البترول، وإقرار تسعير تجارة البترول العالمية بالدولار وحده، ثم بصادرات واشنطن من السلاح، وهي تشكل 49.2% من إجمالي تجارة السلاح، ومقومة بالدولار طبعا، ثم بالهيمنة الرمزية النفسية للدولار، وجعل «العملة الخضراء» مرادفة للثروة، وغيابها عنوانا للفقر، مترافقة مع نشر واشنطن لمئات القواعد العسكرية حول العالم، وزيادة إنفاقها العسكري السنوي إلى نحو 900 مليار دولار، وبما انتهى بمشهد العالم إلى وضع عظيم الشذوذ، تكتفي فيه أمريكا بطبع أوراق الدولار، ثم تقترض ـ أو تأخذ ـ منها ما تريد، وبهدف تغطية عورات اقتصادها المتراجع إنتاجيا، على نحو ما حذر منه المؤرخ الأمريكي البريطاني الأصل بول كينيدي، ففي كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى» قبل ما يزيد على أربعة عقود، كشف أن أمريكا تعتمد على بلطجة عضلاتها المسلحة، ولا تكسب بنفسها قوت عيشها اللازم لإدامة هيمنتها كقوة عظمى قائدة.
على مدى نحو ربع قرن، راحت أمريكا المنتفخة تؤدي رقصتها الأخيرة، وبدت كأنها الذاهب ليبني لمجده قصرا، من دون أن تعي، أنها تندفع لتحفر قبرا، تدفن فيه أوهام قوتها
وبعد كتاب كينيدى، جاءت الوقائع على الأرض ناطقة بالنذر، فاقتصاد أمريكا كان يشكل وحده نصف اقتصاد العالم عقب الحرب العالمية الثانية، وتراجعت نسبته اليوم إلى حول العشرين في المئة، حتى بحساب الأرقام المجردة المضخمة صوريا، فيما زاد حجم الاقتصاد الصيني على نظيره الأمريكي من سنوات، بحساب القوى الشرائية، وسيتعدى الاقتصاد الأمريكي خلال خمس سنوات بحساب الأرقام المجردة، والصين هي حجر الزاوية في جماعة «بريكس»، التي تضم إلى الصين أربعة اقتصادات أخرى، هي روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وتمثل معا 31.5 % من إجمالي الناتج العالمي بحساب القوى الشرائية، فيما لا تمثل أمريكا وبقية مجموعة السبع سوى 30.7%، أضف إلى ذلك، أن الناتج الصناعي الصيني وحده، يفوق الناتج المماثل لأمريكا واليابان وألمانيا مجتمعة، إضافة لما هو معلوم من هيمنة الصين على التجارة العالمية، وحيازتها المتزايدة لفوائض ميزانها التجاري التريليوني مع كل مناطق العالم، وحتى مع أمريكا ذاتها، وهو ما يفضح مدى صورية الادعاء بتفوق اقتصاد أمريكا على كل ما سواه، فهو اقتصاد «فقاعة»، فقد تفوق طابعه الإنتاجي من زمن، وهو «رأسمالية كازينو» و»رأسمالية بورصة ومضاربات»، تقوم على المبالغات المالية المفرطة في تقدير قيمة الأصول، وهو ما كان سببا في انفجار بنوك أمريكية كبرى في أزمة 2008، وهو ما تكرر قبل شهور، مع إفلاس بنوك أمريكية جديدة، تدخلت الحكومة لتغطية عجزها، مع عجز الموازنة العامة، على طريقة اللجوء العبثي الدوري لرفع سقف الديون، وإلا عجزت الإدارة الأمريكية عن تصريف أعمالها، فقد حولوا الاقتصاد الأمريكي إلى اقتصاد ديون متضخمة بلا نهاية، ثم يحدثونك بلا ضجر عن كفاءة النظام الأمريكي، وعن جدارة استحقاقه بالاحتذاء من الآخرين، في الوقت الذي تتداعى فيه دواعي الثقة بأمريكا، وفي السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح جميعا، فقد أعيد توزيع موازين القوى في العقود الأخيرة، بما يدحض أكاذيب تفوق أمريكا الأبدي، ودعاوى تفوق الغرب معها، ومقدرتهم الأسطورية على تجديد وتمديد الهيمنة على مصائر العالم، فقد زالت سيادة أوروبا الاستعمارية القديمة بعد الحرب العالمية الثانية، ثم كسب الغرب مددا إضافيا بقيادة البديل الأمريكي، الذي ضم إلى معنى الغرب السياسي والحضاري كيانات أخرى، تقع إلى الشرق من جغرافيا العالم، كما أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وكان هؤلاء جميعا، يملكون نحو 70% من اقتصاد العالم قبل أربعين سنة، وتراجع نصيبهم جميعا بالكاد إلى نحو 27%.
ومع ضم دول أخرى قريبا إلى جماعة «بريكس»، تتوقع المؤسسات الغربية نفسها، أن يصل حجم اقتصاد «بريكس بلس» إلى نصف اقتصاد العالم، وأن يتراجع نصيب الغرب الموسع إلى 20% سنة 2040، وهو ما يفصح عن اتجاه مطرد لتغيير صورة العالم جذريا، وتعديل الموازين على القمة الدولية، ليس فقط في مجال الاقتصاد والتكنولوجيا، بل في مجالات السياسة والسلاح معها، وحرب أوكرانيا الجارية فصولها، ليست منشئة لما يجري، بل كاشفة عنه، كما ورقة نبات «عباد الشمس» في دورانها الدائب، وتسرع التحول إلى عالم تعدد الأقطاب بديلا عن القطبية الأمريكية الوحيدة، التي شهدت عصرها السحري المصنوع عقب انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين، بعدها صارت أمريكا، كأنها القوة المرهوبة المرغوبة، يخافها الآخرون ويرهبونها، أو يحلمون بالهجرة إلى أحضانها، أو بناء «أمريكات» أخرى في أوطانهم الأصلية، وعلى مدى نحو ربع قرن، راحت أمريكا المنتفخة تؤدي رقصتها الأخيرة، وبدت كأنها الذاهب ليبني لمجده قصرا، ومن دون أن تعي، أنها تندفع لتحفر قبرا، تدفن فيه أوهام القوة الأمريكية، ومن هنا كانت إخفاقاتها وهزائمها في العراق وأفغانستان، وقد ظلت تحطم في الأخيرة على مدى عشرين سنة، ثم كانت النهاية قبل سنتين بفرار المذعورين من «كابول»، ولم تدرك واشنطن، ولا هي تدرك الآن، أن السباحة ضد تيار التاريخ مستحيلة النجاح، فالقوة غبية عمياء بطبعها، لا تعرف أن قرن هيمنتها المطلقة يطوي أوراقه، وأن الغرب القديم ـ الجديد، الذي آلت قيادته إلى واشنطن، قد دهمه زمن الذبول والتراجع، مقابل صحوة الشرق الجديد الموسع جنوبا، وكان في أغلبه من عالم المستعمرات الغربية القديمة، وراحت طلائعه في «بريكس» و»منظمة شنغهاي» وغيرها، توسع لإقدامها وآمالها، وتحقق قفزات تنمية وسلاح وتكنولوجيا متسارعة، فوق حيازتها لموارد بشرية وطبيعية بلا حدود، فالدول الخمس الحالية في «بريكس»، تمثل 42% من سكان العالم كله، وثلث موارد غذاء العالم كله، وإضافة دول أخرى إلى «بريكس»، كمصر والسعودية وإيران والإمارات والأرجنتين وإثيوبيا وغيرها، يجعلها تحوز أغلب موارد الطاقة والممرات البحرية والتجارية، مع فرصة التحرر النهائي من الإملاءات الغربية، وصياغة نظمها في الاقتصاد والسياسة، حسب أولويات شعوبها وثقافاتها الذاتية، إضافة إلى آفاق تعاون مثمر جديد بغير وصاية، مع إضافة مؤسسات أخرى إلى «بنك التنمية» الجديد التابع لـ»بريكس»، ومن دون شروط تعسف واستنزاف، عانت منها دول الشرق والجنوب في اتفاقات «البنك الدولي» و»صندوق النقد الدولي» وأخواتها، وبما يقوض تدريجيا أساس الهيمنة الأمريكية والغربية، ويمضي خطة مدروسة لتفكيك هيمنة الدولار نفسه، بالتحول إلى العملات الوطنية في التبادلات التجارية، وإنشاء نظام بنكي جديد بديل لنظام «سويفت»، يفرغ العقوبات الأمريكية من جدواها ومضامينها، وإبداع نظم تبادل تجاري باتفاقات «المقايضات» والتعاملات الرقمية، وربما من دون التسرع في اتفاق على عملة احتياط جديدة موحدة، قد يكون إقرارها المبكر عنصر تفريق، في الوقت الذي تسعى فيه جماعة «بريكس» إلى توسع مدروس، ونظر متدرج في طلبات انضمام مكتملة لنحو عشرين دولة مهمة، إضافة لعشرين أخرى تدق الباب، وفي تدافع لافت، عكسه حضور عشرات القادة لقمة «بريكس» الخامسة عشرة في جوهانسبرغ».
كاتب مصري