هبوط قياسي لأسعار الغاز يساعد أوروبا على بناء مخزون رخيص لفصل الشتاء

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

هبطت أسعار الغاز المسال في سوق الغاز الأوروبية الفورية إلى أدنى مستويات لها منذ 12 شهرا خلال موسم إعادة بناء المخزونات التجارية، استعدادا لفصل الشتاء المقبل. وتصل نسبة الهبوط في الأسعار إلى 92.2 في المئة مقارنة مع أعلى سعر للغاز المسال في اب/أغسطس من العام الماضي، الذي كان 95.74 دولار للمليون وحدة حرارية. وعلى الرغم من المخاوف من احتمال توقف جزء من الإمدادات الأسترالية بسبب خلافات نقابية بين العمال وإحدى الشركات المنتجة، ومع اقتراب موسم التخزين من نهايته، فقد ارتفعت مستويات المخزون إلى حوالي 90 في المئة من الطاقة الاستيعابية الممكنة.
ويمثل المخزون التجاري صمام أمان ضد تقلبات الأسعار وهبوط الإمدادات. وتشير أسعار المعاملات خلال الشهر الحالي إلى أن أسعار الغاز المسال في أوروبا ما تزال أقل عن الفترة المناظرة في العام الماضي بنسبة تقرب من 85 في المئة. وقد بلغ سعر تسويات السوق الفورية (شهر فأقل) يوم 22 من الشهر الحالي في سوق «تي تي إف» في هولندا 13.6 دولار للمليون وحدة حرارية مقابل 95.74 دولار في يوم 25 من الشهر المقابل في العام الماضي، الذي كان أعلى مستوى لأسعار الغاز المسال على الإطلاق. وكانت الأسعار قد هبطت خلال موسم التخزين إلى أدنى مستوى خلال العام، مسجلة 7.46 دولار للمليون وحدة حرارية في 2 حزيران/يونيو الماضي.
وتنقسم السنة التجارية للغاز المسال إلى فصلين رئيسيين، الأول هو فصل بناء المخزونات التجارية، الذي يمتد من نيسان/أبريل إلى تشرين الأول/أكتوبر، والثاني هو فصل الاستهلاك الرئيسي، الذي يصادف فصل الشتاء في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، من تشرين الثاني/نوفمبر حتى نهاية اذار/مارس تقريبا. وفي العادة تكون تقلبات الأسعار داخل نطاق محدود خلال فصل الاستهلاك، إلا إذا تحكمت في السوق عوامل بيئية قاسية، مثل موجات البرد الشديد، أو خضعت لاعتبارات جيوسياسية غير متوقعة، مثل قطع الإمدادات لأسباب عسكرية أو سياسية. كما تتأثر السوق أيضا في حال خروج بعض مناطق أو حقول إنتاج الغاز أو محطات الإسالة عن الإنتاج، لأسباب تقنية أو نقابية. وقد رأينا كيف أن انخفاض إمدادات الغاز المسال من روسيا إلى أوروبا في العام الماضي كان سببا رئيسيا في إشعال حريق أسعار الغاز المسال في العالم. كما رأينا كيف أن عدم اليقين بشأن مستوى الإمدادات من أستراليا إلى العالم بسبب خلافات نقابية بين العمال وإحدى شركات التنقيب عن النفط والغاز قد أسهم في تحريك الأسعار إلى أعلى في الأسبوع الماضي.

دور المخزونات التجارية

يعتمد استهلاك أوروبا من الغاز المسال في موسم التدفئة الشتوية على ثلاثة مصادر رئيسية هي الإنتاج المحلي، وإمدادات الغاز الروسي بواسطة خطوط الأنابيب، والإمدادات من السوق الفورية. أما الطلب على الغاز فإنه يتأثر بمدى اعتماد شركات التوزيع على مصادر الطاقة المنافسة، خصوصا مصادر الطاقة المتجددة، وأهمها مزارع طاقة الرياح المنتشرة في أنحاء كثيرة من أوروبا في المناطق البحرية في الشمال، وفي أنحاء برية كثيرة تتوفر بها معدلات عالية لسرعة الرياح، ملائمة لتوليد الكهرباء بواسطة التوربينات الهوائية. ويلعب بناء مخزونات تجارية احتياطية لتعويض نقص الإمدادت دورا جوهريا في المحافظة على استقرار السوق. وطبقا لبيانات صادرة عن الاتحاد الأوروبي، ووكالة الطاقة الدولية؛ فإن أسواق استهلاك الغاز الرئيسية في آسيا وأوروبا تتمتع في الوقت الحاضر بمستوى مرتفع من المخزون التجاري في الخزانات الجوفية، والمرافق المجهزة لتخزين الغاز المسال، سواء بواسطة الشركات التجارية أو بواسطة محطات توليد الكهرباء التي تعتمد على حرق الغاز. ومع ذلك فإن الوكالة تؤكد أن امتلاء الخزانات لا يوفر ضمانا أكيدا لأمن الإمدادات وحماية سوق الاستهلاك من تأثير الصدمات المتوقعة، سواء نتيجة حدوث زيادة غير متوقعة في الطلب، بسبب شدة برودة الطقس مثلا، أو لأسباب متعلقة باضطرابات في جانب العرض، سواء كانت جيوسياسية، أو تقنية، أو اقتصادية.
وطبقا للبيانات المتاحة فإن مرافق تخزين الغاز الأوروبية قد أنهت الموسم السابق للتدفئة الشتوية بكميات متبقية من المخزون تزيد كثيرا عن السنوات الخمس الماضية، بما يصل إلى تغطية نسبة 60 في المئة من الطاقة التخزينية. وقد ساعد على ذلك ارتفاع متوسط درجات الحرارة في الشتاء الماضي بمقدار درجة مئوية واحدة، الأمر الذي أدى إلى تراجع الاستهلاك المنزلي لغرض التدفئة، كما سجل الطلب الصناعي والتجاري تراجعا بنسبة 20 في المئة، وتراجع استهلاك محطات الكهرباء من الغاز بنسبة 16 في المئة، مع زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وتراجع الطلب على الكهرباء عموما. وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن الطلب على الغاز انخفض في الدول الصناعية الأوروبية بنسبة تتجاوز 10 في المئة خلال النصف الأول من العام الحالي، الأمر الذي ساعد على بطء وانخفاض معدلات السحب من المخزونات التجارية، وهو ما يعني أن موسم بناء المخزونات في العام الحالي قد بدأ من مستوى مرتفع عما كان عليه في المتوسط في السنوات الخمس الأخيرة.
وتقدر وكالة الطاقة الدولية إنه مع استمرار تخزين الغاز المسال بالمعدلات التي تشهدها السوق منذ أوائل شهر نيسان/أبريل الماضي، فإن مرافق التخزين في دول الاتحاد الأوروبي ستصبح مملوءة بمعدل يتراوح بين 90 إلى 95 في المئة مع بداية موسم التدفئة الجديد 2023/2024 بل إن طاقة التخزين العملية ربما تصل إلى 100 في المئة في منتصف الشهر المقبل. وقد أعلنت بعض الدول الأوروبية المستهلكة ومنها ألمانيا أن نسبة التخزين وصلت فعلا إلى أكثر من 90 في المئة من طاقة التخزين الممكنة. وقالت الوكالة في تقريرها الأخير بشأن مراجعة أمن إمدادات الغاز في العالم، أن دول الاتحاد الأوروبي تستطيع تأمين المخزونات التجارية الكافية لطمأنة السوق، حتى في حال توقف الإمدادات الروسية بواسطة خطوط الأنابيب تماما. وكانت هذه الإمدادات قد هبطت بنسبة تصل إلى 75 في المئة في النصف الأول من العام الحالي، بما يعادل 36 مليار متر مكعب من الغاز، لكن تم تعويض هذا الانخفاض من زيادة الإنتاج العالمي، وتخفيض الاستهلاك المحلي.

أهمية العقود طويلة الأجل

تميز عام 2022 بأنه كان عاما استثنائيا في تجارة الغاز العالمية من ناحية ارتفاع الأسعار بسبب الحرب الأوكرانية. وليس من المتوقع أن يتكرر هذا الارتفاع في الأجل القصير، نظرا لأن صدمة الغاز أدت إلى إدخال تعديلات جوهرية على معادلات الطلب والعرض، بما يؤدي إلى إمكان تجنب وقوع الصدمات، وزيادة القدرة على الوقاية من آثارها السعرية. وكانت أسعار الغاز المسال قد قفزت خلال موسم بناء المخزونات الماضي إلى مستويات تاريخية يوما بعد يوم، نظرا لأن الاتحاد الأوروبي كان يعتمد تقليديا على السوق الفورية في تعويض النقص في الإمدادات الروسية. وزاد من الآثار السلبية لذلك أن الدول المصدرة للغاز المسال لم تكن لديها طاقات إنتاجية احتياطية يمكن التوسع بواسطتها في التصدير استجابة لظروف السوق. وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي على الإنتاج المحلي واتفاقيات الإمدادات طويلة الأجل مع روسيا، لتغطية ما يتراوح بين 80 إلى 90 في المئة من احتياجات الاستهلاك في السنوات العشرين السابقة للحرب الأوكرانية. ولكنها مع فرض العقوبات وهبوط الإمدادات الروسية لجأت إلى السوق الفورية لتغطية نسبة تصل إلى 50 في المئة من احتياجاتها في العامين الأخيرين مقابل نسبة 20 في المئة فقط حتى عام 2021. وإذا افترضنا بقاء الوضع على ما هو عليه فمن المتوقع أن يزيد اعتماد الاتحاد الأوروبي على السوق الفورية إلى 70 في المئة من احتياجات الاستهلاك حتى عام 2030. لكن هذا السيناريو المفزع لزيادة الاعتماد على السوق الفورية، ذات التقلبات السريعة الحادة، بسبب الظروف الجيوسياسية والبيئية الحالية، جعل الدول الأوروبية المستهلكة للغاز تتقدم بسرعة في العام الحالي على طريق توسيع الطاقة الاستيعابية لاستيراد وتخزين الغاز المسال، وذلك ببناء أرصفة لاستقبال وتفريغ ناقلات الغاز المسال، وإقامة المرافق الهندسية والتكنولوجية الملائمة، لإعادة إطلاق الغاز في صورته الطبيعية، إلى شبكات الغاز الطبيعي التي تغذي الاستخدامات المنزلية والصناعية والتجارية وقطاع إنتاج الكهرباء. ومن المتوقع أن تضيف هذه الاستثمارات طاقة تخزين جديدة للدول المستهلكة في موسم التخزين الحالي تكفي لزيادة المخزونات بنسبة 10 في المئة بين عامي 2023 و 2025. كذلك فإن العام الماضي سجل بداية نهج جديد للتعاون بين الدول المنتجة والمستهلكة، من أجل زيادة الاستثمارات في الدول المنتجة بمعدلات نمو كافية للمحافظة على استقرار الأسعار في السوق، والتوسع في توقيع عقود إمدادات طويلة الأجل، لتقليل التعرض لتقلبات الأسعار في الأسواق الفورية.
ويعتبر التعاون بين الاتحاد الأوروبي ودولة قطر واحدا من النماذج الواعدة بين المنتجين والمستهلكين في السوق العالمي للغاز المسال، حيث نفذت قطر في السنوات الأخيرة استثمارات ضخمة من شأنها أن تزيد إمداداتها بنسبة 30 في المئة، مع التحول من الاعتماد على التصدير من خلال الأسواق الفورية المتقلبة، إلى التصدير طبقا لعقود مستقرة طويلة الأجل. وقد أدت التعديلات في استراتيجية صادرات الغاز المسال القطري إلى تخفيض نسبة اعتمادها على الأسواق الفورية لتصريف صادرتها إلى 6 في المئة فقط في عام 2021 مقابل 25 في المئة في عام 2012. وتستهدف الاستراتيجية الجديدة ألا تزيد الصادرات الفورية عما يتراوح بين 5 إلى 10 في المئة. وفي هذا السياق فإنه يجري في الوقت الحاضر تجديد العقود الطويلة الأجل، التي اقترب موعد انتهاء سريانها بين قطر والمستهلكين الرئيسيين في آسيا وأوروبا، أو التي تقترب منه، وهو ما يوفر مكسبا مزدوجا لكل من المصدرين والمستهلكين، يحقق درجة أعلى من الأمان في الإمدادات واستقرار الأسعار. كما إنها تنشط حاليا في توقيع عقود جديدة طويلة الأمد، مستفيدة من زيادة طاقتها التصديرية، لضمان سوق أوسع للإمدادات في الأجل الطويل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية