هل كان تصرفا فرديا، أم لقاء تم التنسيق له على أعلى المستويات؟ إقالة نجلاء المنقوش ساعات قليلة بعد صدور قرار بإيقافها للتحقيق معها، تطرح علامات استفهام كبرى. فهل كان الغرض معاقبتها على خطأ جسيم ارتكبته؟ أم التحفظ والتكتم نهائيا على الملابسات والتفاصيل الحقيقية لما جرى في العاصمة الإيطالية؟ في كل الأحوال لم يعد المستقبل السياسي للحقوقية الليبية فقط على المحك، بل إن عودتها إلى ليبيا باتت شبه مستحيلة، إذ ليس مستبعدا أن تنصب لها المشانق إن هي فكرت في ذلك، وأن توجه لها رسميا تهمة الخيانة العظمى.
من الواضح أن خصومها وغرماءها سيجدون في ذلك فرصة ثمينة للتنفيس ولو عن جزء من الغضب الشعبي العارم، الذي أحدثه تصرفها، وسيحاولون النأي بأنفسهم في المقابل عن أي تبعات قد تطالهم جراءه، وربما سيقول البعض، أليس الأحرى أن تتحمل هي وحدها مسؤولية فعلها؟ ألم تورط نفسها بنفسها حين قبلت أن تلتقي سرا بإسرائيليين؟ لكن هل كان الأمر يتعلق بعمل أقدمت عليه وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية بشكل أحادي الجانب، ومن دون تشاور أو تنسيق، أو حتى ضوء أخضر من كبار المسؤولين الليبيين؟ أم أنه جاء باتفاق معهم وبناء على طلبهم، ولم تكن لهم الجرأة والشجاعة لتحمل كل تبعاته وأوزاره؟ إن ما قد يدعو للتأمل حقا هو أن المنقوش لم تكن في وضع مماثل على الأقل للوضع الذي كان عليه الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان، حين التقى في 2020 وفي أوغندا برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فهي لم تملك سلطاته ولا إسناد ودعم المؤسسة العسكرية القوية والمقسمة بين الشرق والغرب الليبي، التي تحكم سيطرتها على البلاد، بل عانت وعلى العكس، منذ أن كلفت بحقيبة الخارجية قبل أكثر من سنتين، من كثير من الضغوطات والاحتجاجات، بل حتى الاتهامات بعدم التنسيق مع المجلس الرئاسي، ما استدعى إيقافها عن العمل والتحقيق معها في 2021 قبيل مؤتمر دولي عقد في باريس لبحث الأزمة الليبية. ولأجل ذلك ـ على الأقل ـ فإنه لم يكن بوسعها أن تقول إن لقاءها مع المسؤول الإسرائيلي الذي وصفته وزارتها في بيان بـ»العارض وغير الرسمي وغير المعد مسبقا»، والذي تم «أثناء لقاء مع وزير الخارجية الإيطالي»، سيعود بفوائد كبيرة على بلادها، مثلما قال البرهان عن لقائه بنتنياهو، لكن ما وجه الشبه بين اللقاءين الإسرائيليين بالسودانيين والليبيين؟
إحراج المنقوش والسلطات في طرابلس، بالنسبة للإسرائيليين مجرد وسيلة لتحقيق جملة من الأهداف.. فآخر همهم مصير الأفراد الذين يرتبطون معهم بعلاقة ما
إن نقطة الالتقاء هي أن تل أبيب هي التي كشفت عنهما، والمغزى من وراء ذلك قد لا يبدو بسيطا! فهل كان الإسرائيليون غير مدركين، أم أنهم كانوا غير مبالين بالحساسية التي يمكن أن يثيرها الكشف عن أي لقاء بينهم وبين مسؤولين سودانيين أو ليبيين؟ وهل كانوا يتوقعون مثلا أن تكون ردة الفعل الشعبية، وربما حتى داخل بعض الأوساط الرسمية في البلدين على تلك المقابلات باردة أو حتى عادية؟ بالطبع لا.. فما الذي جعلهم إذن يقدمون على إماطة اللثام عن الجلسة التي تمت في روما وشددوا على وصفها بالتاريخية؟ هل هو سوء تقدير من جانب خارجيتهم، كما لمح إلى ذلك بعض المعارضين لحكومة نتنياهو؟ أم أن هناك حسابات أبعد وأكبر جعلتهم يقدمون على ذلك؟ لا شك في أن الدموع التي يذرفها البعض منهم الآن حزنا على مصير الوزيرة، وتعاطفا معها بعد أن صدر قرار بعزلها وباتت عودتها في وقت قريب إلى ليبيا غير ممكنة، ليست في الواقع سوى جزء بسيط من الحبكة الصهيونية. لقد جربت القوى والتيارات السياسية والإعلامية هناك لعبة تقاسم الأدوار وبرعت فيها وهي تستمر في أدائها الآن. فليس من قبيل الصدفة أبدا أن يخرج مثلا يئير ليبيد رئيس حزب «يش عتيد» ليكتب الاثنين الماضي على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي قائلا: «كوزير للخارجية أجريت محادثات لم يعرف بها أي أحد مطلقا. إن إدارة السياسة الخارجية لدولة مثل إسرائيل هي أمر معقد وقابل للانفجار، بحيث يجب إداراتها بحذر وحكمة»، ثم يضيف «تنظر دول العالم هذا الصباح إلى التسريب غير المسؤول وتسأل نفسها هل هذه دولة يمكن الوثوق بها؟ هذه الواقعة تعكس فشلا ذريعا في تقدير الأمور. إنه صباح العار والمخاطرة بحياة إنسان من أجل عنوان». فالمؤكد أن التجاذبات الداخلية بين الأحزاب المحلية مهما اشتدت وحمي وطيسها، فإنها لا تلغي التوافقات العلنية والضمنية في الملفات الخارجية. والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هو ما الرسالة التي أراد الإسرائيليون إيصالها من وراء كشفهم، وعبر بيان رسمي صدر الأحد الماضي عن ذلك اللقاء السري، الذي قيل إنه جرى الأسبوع الماضي في روما وبرعاية إيطالية بين وزير الخارجية إيلي كوهين ووزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش؟ إن إحراج المسؤولة الليبية ومن ورائها السلطات في طرابلس، لم يكن بالنسبة لهم هدفا في حد ذاته، بل مجرد وسيلة لتحقيق جملة من الأهداف.. فآخر همهم هو مصير الأفراد الذين يرتبطون معهم بعلاقة ما، لقد أرادوا في الواقع ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد من وراء ذلك التسريب، فهم يعلمون جيدا أن المنطقة على فوهة بركان، يوشك بين لحظة وأخرى على الانفجار، وأنها مشحونة بالخلافات والصراعات، ويعرفون أيضا أن كل الأنظار مصوبة الآن على النيجر، وما يمكن أن يحصل فيه من تصعيد قد يؤدي إلى هز الاستقرار الإقليمي بأكمله. وهذه قد تكون بالنسبة لهم اللحظة المثالية للانقضاض على الفرص التي تتيحها لهم تلك الأوضاع. لقد تباهى نتنياهو عند وصوله إلى أوغندا للقاء البرهان بالقول إن «إسرائيل عادت إلى افريقيا وإن افريقيا عادت إلى حضن إسرائيل». ومن الواضح أن هدفهم لم يعد الحصول على اعترافات، بل توسيع نفوذهم داخل القارة، لكن إن سقط السودان شهورا قليلة بعد تقارب نظامه العسكري مع الكيان الصهيوني في الفوضى والاحتراب الأهلي، فإن مستقبل ليبيا يظل غامضا ومفتوحا على عدة سيناريوهات. لقد حصل اللقاء الليبي الإسرائيلي أسبوعا واحدا بعد التوقيع على اتفاق ثلاثي بين رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح والمشير خليفة حفتر على الشروط والإجراءات المطلوبة لنجاح العملية السياسية في ليبيا. وربما أرادت تل أبيب أن تقول بذلك للفرقاء الليبيين وللقوى المهتمة بليبيا، إنها لا يمكنها أن تمضي بعيدا في رسم تلك الترتيبات، من دون موافقتها.. كما أرادت أن توجه وفي الوقت نفسه أيضا، نوعا من التحذير المبطن إلى دول الجوار الليبي بأنها باتت قادرة على أن تجد وبسهولة موطأ قدم حتى في الدول التي لا تقيم معها علاقات دبلوماسية. ولعلها تقول هنا للجزائريين والتونسيين انظروا جيدا كيف مدت لنا تلك السيدة يدها واستعدوا لتفعلوا مثلها. أما أي مصير تنتظره؟ فذلك آخر ما قد يشغل بال الإسرائيليين.
كاتب وصحافي من تونس