في عام 1968 اجتمع ثلاثون من علماء التربية والسياسة والاقتصاد والمال في إيطاليا، وكونوا ما عرف بنادي روما لمناقشة حاضر ومستقبل البشرية وحضارة العالم. وخرج المجتمعون بوثيقة مشروع مستقبل الإنسان، الذي صدر حينئذ في كتاب تحت عنوان «حدود النمو». شخّص ذلك الكتاب أهم مشاكل ذلك الزمن بأنها: الفقر المذل، وتدهور البيئة المصاحب لتقدم التكنولوجيا ولازدياد عدد السكان، والأزمات الاقتصادية والمالية المتكررة، وفقدان الثقة في مؤسسات المجتمع، وفقدان الأمان في وظائف العمل، وثورات الشباب على القيم والأخلاق، اوجميعها توجد في كل العالم وإن بنسب وتأثيرات متباينة. وكان الكتاب صرخة تنبيه لضرورة مواجهة تلك المشاكل بحلول فاعلة، قبل أن تصبح كوارث في المستقبل المنظور.
لعل العالم الثالث، المتضرر والمهيمن عليه من قبل الغرب الاستعماري الرأسمالي، قبل وأثناء وبعد استقلاله وتحرره، يدرك هذه المرة أهمية مساندته التامة لمجموعة بريكس
لكن دوائر الرأسمالية الصناعية والمالية، وإعلامها المنحاز لوجهات نظرها، وقوى سياسية انتهازية عمياء، اعتبرت النتائج التي توصل إليها نادي روما مبالغا فيها وأن لهجة التقرير متشائمة أكثر من اللازم، وبالتالي ضرورة تجاهله. وكرد فعل صدرت مبادرات وتقارير وصيحات وكتب من شتى بلدان الغرب الأوروبي والأمريكي وتابعيها تحذر العالم من أخذ كتاب «حدود النمو» بجدية، لأنه لن يقود إلا إلى إيقاف التقدم والنمو الرأسمالي الهادر والمتعاظم، بل إلى ترجيح كفة القوى اليسارية الاشتراكية المناوئة للغرب ولرأسماليته.
إنها الدائرة المفرغة الأبدية، وهي تدور حول نفسها قرناً بعد قرن، دائرة الرفض التام من قبل الرأسمالية وغالبية الرأسماليين لكل محاولة من أي نوع كان لأنسنة نشاطاتها وتنظيم فوائدها ومحاولة بناء تعايشها مع أي أيديولوجية أو قيم أو أنظمة تحاول ضبط جنونها وشطحاتها التاريخية وأطماعها غير المحدودة. وكانت من أهم المحاولات أنذاك ما تقدمت بها قوى يسارية في أمريكا الجنوبية لبناء مجتمع اشتراكي تميزه العدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية غير المزيفة، ويقوم اقتصاده على إشباع الحاجات الأساسية لكل ساكنيه، لكن مثل تلك المحاولات ضاعت في أتون الصراع الغربي ـ السوفييتي المستميت. اليوم يثبت بصورة جلية موضوعية أن استنتاجات نادي روما وتوصياته، ومختلف مبادرات يسار القرن الماضي لتدجين الرأسمالية الكلاسيكية ومن بعدها الرأسمالية النيوليبرالية كانت جميعها محقة، وكانت تستحق أن يأخذها العالم بجدية وترحيب، ويثبت أنه لو أن العالم تعامل معها بإيجابية وطورها عبر الستين سنة الماضية، لما وجدنا أنفسنا الآن نواجه الأوضاع الحياتية الخطرة التي نعيشها والمستقبل الذي نخشاه. ولعل تكتل بريكس الاقتصادي الذي يحاول أن يماثل بعض المحاولات السابقة التي ذكرنا، لن يلقى المواجهة نفسها المجنونة المتعنتة السابقة من دول الغرب الأمريكي والأوروبي وتابعيه ومن دوائر التحكم الرأسمالي العالمية إياها.. لعله يعطي فرصة تطوير محاولة إيجاد مخرج من جحيم المصائب والانتكاسات والحروب التي عاشها العالم عبر القرنين الماضيين على الأقل، ونقل العالم إلى نظام دولي أكثر عدالة وأكثر مساواة وأكثر تضامنا في كل مجالات الحياة الإنسانية والبيئية. ولعل العالم الثالث، المتضرر والمنهك والمهيمن عليه من قبل الغرب الاستعماري الرأسمالي، قبل وأثناء وبعد استقلاله وتحرره، يدرك هذه المرة أهمية مساندته التامة لمجموعة بريكس، وعلى الأخص بعد أن انضمت إليها دول من قلب العالم الثالث، بل وتطالب أغلبيته بالانضمام في القريب العاجل. سيكون محزناً لو وقفت دول العالم الثالث، ومنها بالطبع دول الوطن العربي، موقف المتفرج على محاولات بريكس، تماماً كما فعل العالم الثالث بالكثير من المحاولات السابقة، وسمح لنفسه بأن يكون تابعاً وذيلاً لدول الغرب الرأسمالية، فكراً واقتصاداً وسياسة وثقافة، وبالطبع يهمنا نحن العرب بالذات أن لا نكون آخر من يأخذ هذه المحاولة الجادة بتبن إيجابي ودعم متفاعل ومساند ومستقل.
اليوم، والغرب يدفع بقوة وجنون نحو عالم بلا روابط عائلية واجتماعية وإنسانية تضامنية، وعالم بلا قيم أخلاقية أو دينية ضابطة، وإلى ثقافة مسطحة استهلاكية جشعة أنانية.. اليوم ما عاد يحق لنا، أخلاقياً ومبدئياً، أن نقف متفرجين بانتظار ردات الفعل والقرارات الأمريكية والأوروبية. آن لهذا العالم أن يخرج من سطوة وجنون سيطرتهما على الحضارة الكونية، وقريباً على الفضاء الخارجي وما فيه من خيرات وإمكانيات. لعل الوطن العربي، أكثر المناطق استباحة واستغلالاً وتلاعباً بمقدراته، أن يبدأ، من خلال بعض دوله الجريئة، ومن خلال مناقشات جريئة صادقة في مؤسساته الإقليمية، بدعم موضوع بريكس، الذي يمثل فرصة نادرة للعرب قد لا تعود إلا بعد قرون.
كاتب بحريني