في ما يقرب من مئةٍ وتسعين صفحة صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب المجموعة القصصية التي اختارت لها مؤلفتها بريـجيته كروناور عنوان إحدى قصصها وهو«السيدة ميلاني والسيدة مارتا والسيدة غرترود».
بريـجيته كروناور كاتبة ألمانية ولدت عام 1940 في مدينة إسن الألمانية وتفرَّغت للكتابة منذ عام 1974، لها العديد من الأعمال الإبداعية التي تتوزع ما بين قصة ورواية ومقال أدبي، منها: «ألاعيب النجمة»، «المرج»، «جسر الشيطان»، وغيرها، وقد حصلت هذه الكاتبة على عدة جوائز رفيعة المستوى منها جائزة فونتانا وجائزة هاينريش، وجائزة بريمن. أما في عام 2005 فقد نالت جائزة جورج بوشنر وهي جائزة كبرى حصلت عليها قصتها «السيدة ميلاني والسيدة مارتا والسيدة غرترود». أما الترجمة إلى العربية فقد قام بها مصطفى ماهر وهو واحد من أبرز المترجمين عن الألمانية.
تحتوي المجموعة على ثلاث قصص هي، حسب ترتيبها في المجموعة، السيدة ميلاني والسيدة مارتا والسيدة جرترود، تساتسيرا، نيس، إضافة إلى مقدمة المترجم، التي تطرق فيها لحياة المؤلفة ولإبداعها، وهي مقدمة تتجاوز عتبة الخمسين صفحة، ورغم طولها إلا أنها في مكانها شارحة ومضيئة طريق القارئ قبل أن يدخل إلى عالم الكاتبة، إنها بمثابة المصباح الذي لا بد من حمله أثناء سير القارئ عبر دروب هذه القصص.
كتاب مختلف
في بداية المقدمة يقول المترجم: لم تشغلني ترجمة كتاب مثلما شغلني هذا الكتاب وصاحبته، فهو في حقيقة أمره كتاب صغير، لكنه أبعد ما يكون عن الكتب الصغيرة العادية، إنه كتاب مختلف، مراوغ، عارم، يستولي عليك بقوة الكلمة وقوة الفكرة وقوة البناء ويستفزك بتجديده العنيد والمختلف. إذن نحن هنا إزاء كتاب مختلف لكاتبة مختلفة أيضا، وبعد ذلك يتعرض المترجم لحياة الكاتبة الإبداعية والفكرية التي بدأت طريقها فيها منذ عام 1974، غير أن الأنظار لم تلتفت إليها، إلا بعد أن حصدت جائزة جورج بوشنر المرموقة، على حد تعبير المترجم، ومن قبل هذه الجائزة كانت روايتها «اشتهاء الموسيقى والجبال» قد ذاع صيتها ولفتت الانتباه إلى صاحبتها. كما يشير المترجم إلى أن هذه الكاتبة تُعدُّ واحدةً من الكاتبات المجدِّدات، أي أنها ليست كاتبة والسلام!، ليست ككاتبات أخريات أو كتاب آخرين.
يقول المترجم: تستخدم بريـجيته كروناور قدرتها اللغوية الفائقة، وموهبتها في التقاط التفصيلات على اختلاف أنواعها وتقليبها على وجهي ثنائية المعنى، في توليد نص نقدي تنظيري إبداعي متداخل. كما يضيف أنه إذا لم يكن مشروع بريـجيته كروناور التجديدي مشكّكا في المنطق التقليدي أو متحفظًا تجاهه، فإنها في تعاملها مع المكونات المقتطفة من واقع الحياة، لا تتماسك بمسار زمني.
في قصتها الأولى السيدة ميلاني والسيدة مارتا والسيدة غرترود، تستحضر الكاتبة ثلاث سيدات لا يلتفت إليهن أحد، لكنهن يكتسبن تحت نظرتها شكلاً، فهن ثلاث أرامل لا تعرف إحداهن الأخرى، ترسم حولهن دائرة وتبني بناء من علاقات واستنتاجات فردية تقوم هي بتشييده. أما في قصتها الثانية فتتغنى الكاتبة بالجمال الأسطوري البكر الذي يتجه نحو شيخوخة ما لتساتسيرا وهو مكان في إيطاليا لا يكاد الإنسان يصل إليه حتى يصبح فورا إنسانا لطيفا بالضرورة الجبرية.
معاناة وجدانية
ولا يستطيع أن يخفي نفسه في شره الذاتي، لأنه في تساتسيرا لم يكن يلبس شيئا مفروضا.
ويضئ طرائق سردها بطل قصتها الثالثة نيس، فتخرجه من كهفه الحالك والمظلم، فإذا حياته البائسة قد عرفت طريقها إلى السعادة والبهجة حينا، وإذا المعقول ينهار بقيام الحرب العالمية الثانية، وإذا الضوء يعجز عن تبديد هذا السواد، فتعيده الكاتبة إلى كهفه الحالك والمظلم مرة أخرى. إننا، والقول للمترجم، نشعر هنا بنبض الرومانتيكية الألمانية التي أكدت بريـجيته كروناور ارتباطها الروحي بها، وسنجدها في جريها وراء الحقيقة في واقع الحياة تلتقط أشخاصا تراهم هي وإن لم يرهم الآخرون، شكّلتهم ألوان من المعاناة الوجدانية المكتومة، التي سرعان ما تُظهرها على وجوههم. كما نستشف في هذه القصص أن الكاتبة لا تكتفي فقط باكتمال الإبداع ولكن بتوليد الإبداع، بالرجوع به إلى فطرته، وإلى موروثاته، إلى تطابقه مع الحياة الواقعة فعلاً، وتمارس الكاتبة مهارة تقنية وقدرة على البناء على المكشوف، المهيمن على كل المستويات، المحلق بجناحي المكان والزمان، المتنقل بين محطات المفاجأة والمباغتة، قدرة معمارية تجسمها شخصية الـ»أنا» الراوية الناطقة بلسان الكاتبة المتوحدة فيها.
وفي نصوصها ثمة حوار ذاتي منطوق وحتمي، وحوار مع آخرين لا يتكلمون، هو استشفاف لما يشتهيه جمهور القصة، واستجابة محدودة لأن الفنانة المبدعة مصممة بتقنيتها المذهلة على اختراق حاجز الاصطناع والتصنع والنفاق وصولاً إلى القصة، كما هي في واقع الحياة.
إنها بالفعل مجموعة قصصية، على الرغم من صغرها، ممتعة إلى حد بعيد، وسيرى من تورط في قراءتها أنه في حاجة مُلِحَّة إلى العودة إلى قراءتها مرة ثانية وثالثة وربما أكثر.
كاتب مصري