يناقش كتاب «روسيا والربيع العربي» لأليكسي مالاشينكو جهود بوتين في استعادة الشرق الأوسط من الغرب وأمريكا. ويعترف منذ البداية أن الخطط لم تحقق أهدافها الاستراتيجية. وأصبحت روسيا في مواجهة ساخنة مع الغرب، في ظل انتشار غير مسبوق للاتجاهات الإسلامية الراديكالية. ويحدد مالاشينكو المراحل التي مرت بها علاقات روسيا مع الشرق الأوسط «العربي» بأربع محطات:
1 ـ ما قبل الحقبة السوفييتية. حينها لم يكن للروس أطماع بالعرب، إذا استثنينا الكنيسة الأرثوذوكسية في فلسطين.
2- ما بعد ثورة 1917 وتخللتها جمعيات عقيمة ينقصها المخاض الثوري.
3- ما بعد حرب 1945 وحينها وظف الروس العرب في بناء ستارهم الحديدي. لكن دخول العرب في حلف عسكري، لم يلازمه تعاون أيديولوجي (ولاقى الشيوعيون كل أصناف التعذيب في السجون). لكن لم يلاحظ مالاشينكو في هذا الشأن التفاوت بين الدول الوطنية والقومية، ولم يفرزها إلى اشتراكيات متشددة، وأخرى هجينة وطنت الدين والحداثة والعسكرتاريا في إطار واحد. مع ذلك (والكلام لمالاشينكو) نجحت موسكو في تسويق «تحالف غير رأسمالي» خاض معها حربها الباردة داخل منظومة «العالم الثالث».
4- آخر مرحلة بدأت بعد إعادة العلاقات بين روسيا وتل أبيب عام 1991، وأذنت بنزوح العرب سياسيا نحو الغرب.
ولذلك توجب على بوتين منذ عام 2000 أن يعيد ترميم ما خربته البيروسترويكا. وكانت تحدوه لذلك، نوستالجيا مرضية لأمجاد السوفييت، والمصالح الوطنية لروسيا. ويرى مالاشينكو أن هذا دليل على عدم تقبل فكرة موت «السوفييتزم».
وإلى قلق ضمني عند بوتين من مسلمي القوقاز وحوض الفولغا. فخلفياتهم الروحية قد تفيد الأتراك، وهم قوة إخوانية ناشئة، تداعبها أطماع بالتوسع واستعادة ما ضاع من أجدادهم. وتركيا الآن تحاول أن تقدم صورة مثالية عن فضائل الشرق وحكمة الغرب. وهو ما يرشحها لتطوير سياسات تنافسية، حتى أنها تمكنت من إقامة قواعد عسكرية في قطر وليبيا، واقتصر دور الروس على التوسط بين إيران والغرب، وبين العرب وإسرائيل، ولم يعد لهذه الوساطات دور بعد معاهدة إبراهام واندلاع الحرب مع أوكرانيا.
ويسأل مالاشينكو نفسه: من صمم وأدار هذه الثورات؟ وتفهم ضمنا أنه يتهم واشنطن، ويدينها بافتعال حرب توسعية تستهدف المناطق الدافئة، ولهذا السبب احتفظت الدولة الروسية بلغة معتدلة تجاه الأحداث، وأعلنت أنها تعبير مشروع عما يلاقيه الإسلاميون من ضغوط في بلادهم. ثم يدين مالاشينكو دور الكرملين في مناطق الثورات العربية، ويعتقد أنه يدعو للأسف. فبعد أن كانت الكلمة الأولى في نظام القذافي للروس يلاقون اليوم في الجمهورية الجديدة شتى أنواع الضغط والحصار. وأول ضحية كان إلغاء طرابلس صفقة تجارية مع موسكو تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار بحجة أنها معقودة مع القذافي ونظامه، ثم توقف عمل شركتين روسيتين عملاقتين هما تاتنيفت وغازبروم، وسيطرة شركة إيطالية هي ENI على سوق النفط الليبي. ويرى مالاشينكو أن هذا ما حدا ببوتين عام 2015 لمنع سقوط النظام السوري والاحتفاظ بمربع أخير على المتوسط، لكن سبق تأخير العمل العسكري عدة رهانات ثبت عدم جدواها.
أولا، محاولة روسيا للتوسط بين دمشق والدول العربية المتململة من نفوذها في المنطقة وبالأخص لبنان.
ثانيا، قناعة روسيا بكفاية الوجود العسكري لحزب الله والإيرانيين.
وينقل مالاشينكو عن كميل حبيب الأستاذ في الجامعة اللبنانية في بيروت أن الصراع على سوريا هو في أحد وجوهه صراع من أجل أوراسيا. وفي ضوء هذه الظروف لم يكن أمام موسكو أي حل سوى مغازلة الإسلاميين. فدعا الكرملين إلى مؤتمر دولي عام 2012، وكان من جملة المدعوين القرضاوي، الذي ألقى منذ فترة قريبة بيانا ضد استراتيجية الروس. وتبعه مؤتمر مماثل في داغستان، شارك فيه علي محيي الدين القراداغي، الذي ينظر للمسلمين الروس على أنهم جزء عضوي من الإسلام «العربي».
ويذكّرنا ملاشينكو بالأحداث الدامية التي قام بها المسلمون في القوقاز وحوض الفولغا وجمهورية تاتارستان، حتى ان مسلمي قازان تظاهروا عام 2012 في حديقة النصر، وأنزلوا العلم الروسي، واستبدلوه براية حزب التحرير الإسلامي. وحاليا توجد خلايا إسلامية نشيطة في نابيرجني شيلني ونيجني كاميسك، بالإضافة إلى نشاط ملحوظ في جمهورية باشكوتستان المجاورة وجنوب الأورال وصربيا. حيث تنتشر خلايا تنظيم مناطقي باسم «الذئاب الرمادية». وترافق كل ذلك مع زيادة في تدفق المسلمين لروسيا من حدودها الجنوبية هربا من الأوضاع الاقتصادية في بلادهم. وتشبه هذه الهجرات زحفا آسيويا منظما من وسط آسيا إلى أطراف روسيا الاتحادية، وحسب التقديرات يأتي الأوزبك على رأس القائمة، وقد بلغ تعدادهم مليونين وسبعمئة ألف، ثم يأتي الطاجيك ويبلغ تعدادهم مليونين وثمانمئة ألف. والقرغيز (800.400 ألف). ويوجد في هذه الأرقام درجة كبيرة من التسامح، وهو مؤشر على صعوبة تقييد حركة النازحين وملاحظة طبيعة حياتهم. ومن المؤكد أن أكثر من نصف هؤلاء غير معروفين، ودون قيود ولا سجلات. وبينهم كما يقول مالاشينكو خلايا تابعة لحزب التحرير، وتتكون كل خلية من 3-5 أعضاء، يعملون جهدهم للتغرير بالعنصر الروسي المسلم. وينقل عن أليكسي ستاروستين ظهور جماعات راديكالية تعمل سرا في الأورال، وتدعو لإقامة نظام الخلافة. ويزيد من هذه المخاوف العديد من التتار والبشكير والقوقاز الذين يقاتلون في سوريا. فقد تدفقوا عليها بأعداد كبيرة، وشكلوا فصائل جهادية لمحاربة الروس، وتحولوا في ريف حلب إلى أسطورة بدمويتهم ولغتهم العربية الثقيلة. ويرى مالاشينكو أنه يتوجب على الدولة الروسية فرض المزيد من الحرص والحذر، والتخلي عن سياسة «ما بعد البيروسترويكا» والانتقال لاستراتيجية «ما بعد الربيع العربي». وعلى روسيا، والقول لمالاشينكو، تطوير وعي موضوعي بما يمكن القيام به، وما نريد القيام به ونتمناه. ولا تزال توجد فرصة حقيقية أمام الروس لإقامة نظام أمان مناطقي من أهدافه تحقيق الاستقرار في الدول المجاورة لهم.
في النهاية تبقى عدة أسئلة بلا إجابة.
الأول، كيف تضمن موسكو استقرار الحزام المحيط بها، وهي تعاني من تذبذب في قيمة صرف الروبل، كما يقول الباحث عدنان كريمة في أحدث دراساته. ولا تبرر زيادة الإنفاق هذه الظاهرة، ووراءها بالتأكيد حرب أوكرانيا، والتعبئة الجزئية التي عطلت جزءا من الحرف والمهارات الفنية.
الثاني، كيف نقرأ ظاهرة بريغوجين. ولماذا ارتبط اسمه بمشروع بوتين، مع أن الجيوش الخاصة لا ترتبط بأشخاص، وتنفذ برامجها بتكتم، ولا تؤثر على الشعور الوطني. ويكفي التذكير ببلاك ووتر التي نشطت في 20 بلدا واستفادت من خدمات 16 ألف موظف أمني. وجي4 إس التي تنتشر في 125 دولة ويخدمها 645 ألف موظف.
الثالث، لماذا لم تتنبأ المخابرات الروسية بلعبة الربيع العربي، وسمحت بتكرار فاجعة بغداد.
الرابع، ما هي الدواعي التي تترك فيها موسكو سماء أصدقائها مفتوحة لاستعراضات السلاح الجوي الإسرائيلي، ولا تعمل على حمايته كما تفعل أمريكا مع تل أبيب، حتى مالاشينكو لاحظ أن ضعف أصدقاء روسيا هو السبب الأساسي لانسحاب السادات من الحلف الروسي، وانتشار رموز الثقافة الغربية في كل أرجاء الشرق الأوسط.
صدر الكتاب باللغة الإنكليزية عن معهد كارنيغي للبحوث في موسكو
كاتب سوري