فتحت نافذة غرفتي، فلمحتُ أطفالاً صغارًا يحملون على ظهورهم حقائب ضخمة، وفي أيديهم اليمنى أكياس مزركشة الألوان.
ما الأمر يا ترى؟
ماذا حصل في هذا الصباح، صباح الاثنين 4 سبتمبر/أيلول 2023؟
إنه «الدخول المدرسي»، كما يطلق عليه في المغرب، أي انطلاق الموسم الدراسي الجديد، الذي صار مرادفًا لـ»حمل الأثقال» بالنسبة لبراعم الأسر.
قلت في نفسي: هل يريدون تدريب الصغار على هذا النوع من «الرياضة»؟
أم تراهم يرغبون في جعلهم مقوّسي الظهر، أملاً في خلق جيل جديد «مُروَّض» ومستعد للخضوع والانحناء؟!
ومن ثم، فعوض أن يكون الموسم الدراسي الجديد لدى الأطفال مصدر شوق وسرور، أصبح يعني إجبارهم على حمل محفظات مليئة بالكتب والدفاتر والأدوات المدرسية؛ لا سيما في مدارس التعليم الخاص التي لا تكتفي بإدراج كتب محلية الصنع والمحتوى، وإنما تصرّ على إلزام آباء التلاميذ باقتناء كتب مستوردة من الخارج، فرنسا تحديدًا، مع ما تحمله أحيانا من قيم دخيلة على المجتمع المغربي.
أشفقت لحال الصغار ولآبائهم. وخطر في بالي سؤال عريض: مَن المسؤول؟
في المساء، جاءني الجواب حين شاهدت تقريرًا تلفزيونيًّا يتحدث فيه مسؤولون من وزارة التعليم عن «دخول مدرسي» شعاره «الجودة والابتكار»، ويرددون عبارة «إصلاح القطاع»… وغير ذلك من الشعارات الرنانة البعيدة عن الواقع!
لا يمكننا انتظار الإصلاح والجودة والابتكار ما دمنا نشاهد تلك الحقائب الضخمة لصيقة بأجسام ضعيفة لا تقوى على حملها… وهي تعني أن أسلوب التلقين والتكديس ما زال معتمدًا في المدرسة المغربية، بَدل أسلوب الحوار والتفاعل والإبداع.
الحكومة وناطقها «الصامت»!
أما «الدخول السياسي» في المغرب فهو مطبوع بغياب تفاعل الحكومة مع انشغالات المواطنين ومشكلاتهم اليومية المضنية؛ إذ تكتفي «معاليها» بالاجتماعات الأسبوعية ذات الموضوعات الروتينية التي يعقبها مؤتمر صحافي للناطق الرسمي باسم الحكومة، سمته الأساسية: لغة الخشب وتلاوة تقارير جافة والاستعلاء على ممثلي وسائل الإعلام!
وأغرب ما صدر عن الناطق الذي لا ينطق بما يشفي الغليل، أنه لمّا سُئل أخيرًا عن موقف الحكومة من اعتداء البحرية الجزائرية على شباب مغاربة تاهوا خطأً في المياه الإقليمية لسواحل الجزائر خلال ممارستهم لرياضة الدراجات المائية في شاطئ مدينة السعيدية المغربية، اكتفى بالقول إن الموضوع بيد القضاء. «وكفى الله المؤمنين القتال». وكأنّ الرجل لقّنوه أن «الصمت» أفضل من «النطق» في حالات كثيرة، لأن العرب قالوا قديمًا: «كم حاجة قضيناها بتركها»، وعلى هذا المنوال نسج السلف الصالح المثل التالي: «اللي تخلّيك خلّيها».
أما نحن فنردد مع «موسيقار الأزمان» فريد الأطرش، أغنيته الجميلة «خلّيها على الله» (من كلمات وألحان مأمون الشناوي) التي يبدأها مترنّمًا:
«خلّيها على الله ومشّيها ويالله
اتبسّم واضحك للدنيا ولا تسأل وافرح بشبابك
ليه تصرف من عمرك ثانية تتألم أو تشكي عذابك…»
ويتابع قائلاً:
«الدنيا مراية لما أضحك فيها
تضحك ويايا وتروق لياليها
شوف شغلك والباقي على الله وخلّيها على الله على الله…»
أحقا الرياضة أخلاق؟
وماذا عن «الدخول الرياضي» في المغرب؟
لقد انطلق على إيقاع العنف المتبادل بين مجموعة من المشجّعين، بالموازاة مع مباراة كرة القدم التي جرت بين فريقي «الرجاء البيضاوي» و»الجيش الملكي»، حيث تداول نشطاء التواصل الاجتماعي «فيديو» يوثق تبادل عددا من الأشخاص العنف والرشق بالحجارة في الشارع العام بمدينة الدار البيضاء. وعوض أن يكون الملعب قبلةً لأولئك المشجعين، استقبلت بعضهم أقسام الطوارئ بالمستشفيات، فيما كانت وجهة البعض الآخر مراكز الأمن.
من المفارقة بمكان أن تُصرف الملايين على الفرق الرياضية، دون أن تتمكن من تعويد مشجّعيها وجمهورها على السلوك اللائق. لكن، ماذا تنتظر من أهل البيت «إذا كان ربّ البيت بالدفّ ضاربا»؟ وربّ البيت في هذا المقام هو الناطق الرسمي باسم فريق «الرجاء البيضاوي» الذي اختار أن يلج باب الشهرة عن طريق البصق، وليس عن طريق فصاحة اللسان وسمو الأخلاق! إذ اقتنصته الكاميرات هو ينزل إلى أرضية الملعب ليبصق في وجه لاعب من فريق «الجيش»، كرد فعل على قيامه بالإمساك بقميص لاعب من فريق «الرجاء».
الفريق العسكري رفع شكاوه إلى «لجنة الأخلاقيات» لدى اتحاد الكرة المغربي. وما إن مثل
الناطق الرسمي باسم الفريق الأخضر أمامها، حتى طاردته كاميرات المواقع الإلكترونية، أملاً في الظفر منه بتصريح، لكنه نفذ بجلده، رافضًا الكلام… ربما اقتناعًا منه بأن الفم الذي يخرج منه البصق لا يقوى على النطق!
سمك المهرج… درس للإنسان!
استرعى انتباهي أخيرًا شريط وثائقي بثته قناة «بي بي سي عربي» عن سمك «المهرج»، ومصدر الغرابة هو اسم هذا النوع من الأسماك، وشكله، وطريقة عيشه؛ لدرجة أنه كان موضوعًا لرسوم متحركة شهيرة تحت عنوان «البحث عن نيمو».
وجاء لقب «المهرج» انطلاقًا من الحركات الرشيقة التي تقوم بها هذه الأسماك، ما يبعث على اندهاش وإعجاب الغوّاصين، حينما يقتربون منها ويلجأ بعضهم إلى تصويرها، حتى صار «اليوتيوب» مليئًا بالفيديوهات حول هذه الفصيلة البحرية ذات الألوان البهية.
طريقة عيش سمك «المهرج» درس نموذجي في العلاقات النفعية المتبادلة، ذلك أنه يعيش بجانب «شقائق النعمان» البحرية، وبما أنه يفتقر لوسائل الدفاع عن النفس، يختبئ بـ»شقائق النعمان» من أجل الاحتماء بين لواسعها من هجوم «الأعداء». كما أن هذا النوع من السمك، في الوقت نفسه، يتوفر على غطاء مخاطي للحماية من لسعات «شقائق النعمان» السامة. في المقابل، تعمل سمكة «البهلوان» على تخليص «شقائق النعمان» من بقايا الأسماك واللافقريات التي يمكن أن تضرّ بها. كما أن فضلات سمك «البهلوان» تظلّ غذاء مفضّلاً لـ»شقائق النعمان».
من هنا، يتبادر إلى الذهن التساؤل التالي: أليست الشعوب والدول والأفراد والمجموعات البشرية أجدر بمثل هذه العلاقة التكاملية؟ فمن المفروض أن تكون في خدمة بعضها البعض، ما دام كلّ واحد محتاجًا إلى غيره، في إطار من التعاون والتكافل والتضامن، لضمان استمرار الجنس البشري في بيئة سليمة.
خاصية أخرى تميّز سمك «المهرج»، تتمثل في تقسيم العمل بين الذكور والإناث، فعندما تضع الإناث بيضها، تتولى الذكور حراسة البيض إلى أن يفقس، وتعمل أيضا على رعاية الصغار؛ بالإضافة إلى خاصية أخرى تتعلق بالتحول الجنسي، ما يجعل المرء يتفكّر في إحدى معجزات الخلق الإلهي!
٭ كاتب من المغرب.