لا أظن أن الناس في منطقتنا التي أصبح يخيم عليها السكون والخمول، منشغلون في لحظة روحانية، بالتأمل والتفكر في ملكوت السماء، بعد أن أعيتهم خيبات السياسة وأزمات الاقتصاد وانسداد أفق التغيير. لكن بالإضافة إلى الخمول، هناك الذهول، الذي بات سحابة ممتدة فوقنا. والذهول هو تركك الشيء وتناسيه عمدا أو تغافلا. وحتى كلمة الداهل (غير المنقوطة)، تعني على خلاف الشائع ذلك الحائر. نعم الذهول هو محاولة لنسيان ما يجري حولنا، مما لا نستطيع تغييره أو تفسيره.
بالأمس القريب في المنطقة كانت هنالك أفكار متصارعة، وأطراف متحمسة لمواجهة بعضها. وكنا نفرح ونستعد لمشاهدة حلقات الصراع الثقافي في الإعلام. حين كان يمنح كل طرف نوعا من لذة الانتصار والحسم مع الخصوم نظريا، في الوقت الذي قد يفشلون فيه سياسيا.
أفكار ميتة
وكان آخرون يردون على بعضهم، وكانت هنالك أحلام كبرى مُعلنة. الجميع اختفى عن الأنظار، وخيم على المشهد السكون والخمول. وتعطلت المشاريع وتأجلت الأحلام إلى أجل غير معروف. إنني أريد أن أصف أحدهم بأنه يساري صدقا فأتوقف عن ذلك، ولا أجده يستحق ذلك اللقب نظريا وأخلاقيا.
أبحث عن نسخة قريبة من إسلاميي الأمس فلا أعثر عليها. وأجد البعض تائها في المراجعات، وآخرين غارقين في الإنكار والتنكر للماضي القريب. أريد أن أرد على علماني أو حداثي عربي حقيقي، فأتوه في البحث عنه، والعثور على الجديد مما يستحق من أفكاره التي ليست أفكاره. فلا أجد سوى بقايا أفكار ميتة لا تصلح حتى للقراءة.
هل هو علماني حداثي مختبأ أو مترفع عن النقاش، أم قد أنهكته المحاولات اليائسة في هذه المنطقة، التي تستعصي على الإقناع والتغيير؟ إن الأشياء والأحداث في بعض بلدان منطقتنا تبدو متحركة من غير مُحرك. أو هي أشبه بما عبر عنه أرسطو قديما، المُحرك الذي لا يتحرك. والكثيرون ينسون أن عوامل الحركة في المنطقة لن تكون سياسية أو اقتصادية فقط، بل شعورية.
وقد تبادر إلى ذهني سؤال لا أعرف مدى أهميته، كما أني لا أمتلك جوابا عنه. وهو هل تشعر كثير من الأنظمة في المنطقة بالارتياح، بعد تراجع واختفاء القوى والأفكار والأحلام، التي كانت سائدة ومزعجة ومتحدية للسلطة؟ إن مصطلح أو جملة الحياة السياسية، التي تُستخدم كل يوم من طرف الجميع لا معنى لها، ولا يمكن أن تكون صحيحة، إلا إذا توفرت عناصر الحياة كما هي في الطبيعة نفسها. وهي التدافع والتحدي والاختلاف والحرية والنزاهة. فلا حياة سياسية فوق مقبرة من الأفكار، مات أبطالها أو تواروا عن الأنظار.
في السابق قبل عقود فقط، كنا متدينين بدرجة معينة وفق وعي مختلف. لكننا الآن وإن تغيرنا، فإننا لم نترك التدين، وقد أصبحنا أشخاصا مختلفين. إن كثيرا من المتدينين قبل أربعين عاما فقط، كانوا يعشقون الأناشيد الدينية التي ظهرت مع موجة الصحوة الإسلامية. وكان من النادر أن تخلو منازل المنتمين إلى الصحوة والمتعاطفين معها من أشرطة الأناشيد. وقد تشرب وعيهم كلماتها التي كانت تُحمس أجيالا كاملة، وتُذكرهم بمعاني الإسلام وقضايا الأمة، وإن كانت ألحانها وأدواتها الموسيقية بالغة الضعف بمقاييس الفن المعاصر.
إن الكثيرين الآن من اليسار حين يستمعون إلى ترانيمهم المقدسة السابقة، سوف يجدون مسافة شعورية معها. وكذلك الإسلاميون إذا استمعوا إلى تلك الأناشيد، قد يجدون أنفسهم ابتعدوا عنها مسافة معينة من الناحية الشعورية. وأن عددا من معانيها قد اختفى، والأكثر من ذلك أنها فقدت جزءا كبيرا من تأثيرها عليهم، وتحولت إلى ذكرى مرحلة معينة. كان المنتمون إلى موجة الصحوة مرتبطين بالأناشيد فقط لكونها جزءا من قضية الصحوة، أما من الناحية الفنية فإنها لم تكن قادرة على منافسة أنواع الفن المنتشرة.
لكن وعي أولئك الشباب المتدينين غلب أذواقهم، وجعل كلمات الأناشيد تسمو على متطلبات الموسيقى وجمالية الآلات. لقد كانوا يرون فيها أداة لدعوة مجتمعات عربية، اعتادت على الغناء والموسيقى، ويصعب عليها القبول بالأناشيد كبديل واحد عن باقي أنواع الموسيقى والغناء. كان الكثير من الذين يحترمون التنظيمات الإسلامية يحترمون أيضا تلك الأناشيد، لكنهم لم يكونوا قادرين على نسيان أذواقهم التي استقرت في وعيهم، وترجع إلى زمن طويل. والأعجب من هذا أن كثيرا من المتدينين قد نقلوا صراعاتهم وخلافاتهم الفقهية حول جواز استعمال الآلات الموسيقية من عدمه، حتى إلى أولئك الناس العاديين غير الملتزمين.
عناد اجتماعي
أما المجتمعات فلم تقبل بكل ما جاءت به الصحوة الإسلامية، لكنها امتصت قدرا معينا من أفكارها، واكتفت بجزء من المفاهيم التي بثتها، وحولته إلى سلوك وممارسة. لقد استوعبت المجتمعات الكثير من مفاهيم الصحوة حول الأخلاق والتدين والعلاقة بالإسلام، لكن الناس لم يتشربوا أكثر الأفكار السياسية والذوقية التي دعا إليها الإسلاميون.
وبالنسبة للكثيرين فإن تلك الأفكار تتعارض مع حرياتهم الفردية. ولسان الحال يقول: نعم نريد منكم خصال النزاهة في التدبير والصدق في الخطاب، لكن قضايا السياسة والدولة والحريات ليس عليها اتفاق حتى اللحظة.
نعم لقد أوصلت المجتمعاتُ الإسلاميين إلى السلطة بأشكال ودرجات متفاوتة، وانقلبت عليهم كذلك. لكن الناس لم يستوعبوا أو لم يتقبلوا أيديولوجيا الإسلاميين السياسية وأخلاقهم. وبحس فطري ميزت المجتمعات بين القبول بإنجازات الإسلاميين الاقتصادية، حيث دعمتها ونظرت إليها بإيجابية، وبين طموحاتهم وآرائهم السياسية ورؤيتهم للحريات الفردية، التي ظل الناس يحتاطون منها.
لقد مثلت موجة الصحوة منذ قرن إبرة وَخَزت وعي المجتمعات العربية والإسلامية، لكنها لم توقظه من السبات بشكل كامل. إن أحد مظاهر القصور في موجة الصحوة هو عدم تسربها إلى الوعي والشعور الجمعي، واكتفاؤها بقضايا السياسة والأخلاق. وفي الكثير من الأحيان سوف نجد أن المجتمعات قادرة على التضحية والموت من أجل قضيتك، مع عدم استعداد أفرادها التخلي عن أي من اختياراته الذوقية وأخلاقيته المنفتحة.
لقد دعم الناس العاديون الإسلاميين في معارك سياسية ومجتمعية عديدة دون أن يتخلوا عن أنماط عيشهم التي يحبونها، وهم لا يريدون من أي أحد أن ينازعهم في مشروعية حياتهم الاجتماعية الخاصة، ذلك أن قدرة المجتمعات على امتصاص الأفكار السياسية والبدائل الأخلاقية، يتم ببطء شديد، وبجرعات محدودة وفق ما يتقبله وعيها.
إن تعامل الناس مع الفكرة الإسلامية يشبه تعاملهم مع نظام التفاهة، فهم لا يعيشونه دائما ويأخذون منه بقدر ما يحتاج أن يتزود به وعيهم في لحظة معينة، ثم يعودون لأنشطة أخرى أكثر جدية. وعندما ينخرط الناس في دعم قضايا الإسلاميين، فإنهم يحملون مع جديتهم حينها مكوناتهم الأخرى، التي لا يتخلون عنها. ليعودوا بعد المظاهرات والاحتجاجات والخطابات المهيجة، إلى الاستماع للموسيقى أمام البحر نساء ورجالا، أو الحضور لعرس راقص. أما الإسلاميون فيبقون على نفس النمط الحياتي قبل المظاهرات وبعدها، فهم مؤهلون للقيام بهذا الأمر، وقد تشربه وعيهم بدرجة أكبر من الآخرين.
أنماط صارمة
أختم بالقول إن الوعي هو القائد الحقيقي للمجتمعات، وميزته الأساسية هي قدرته على مزج أفراد المجتمع في قالب منسجم، يؤدي حتى إلى إضعاف اختياراتهم المنطقية والعقلانية الفردية في مناسبات عديدة. وعندما يكون الإنسان منفردا فإنه يكون أكثر وعيا، بالمقارنة مع حاله بين الناس مجتمعين، حيث يكون تأثير الوعي العام أكبر. وهذا ما يجعلنا نشاهد كثيرا من العقلاء قد تحولوا إلى تافهين ضمن سرب المجموعة. وبإمكانك منفردا أن تكون أذكى من الجميع، لكن المجموعة ستبقى أقوى منك، فهي ليس مطلوبا منها أن تتحلى بالذكاء. وإذا وضعت شخصية عالمة مثل الغزالي أو ابن تيمية بين مجموعة كبيرة من الثائرين، فبالتأكيد لن يكون عامل الذكاء لديهما حاسما في نتائج تلك الثورة، التي قد يطلق شرارتها رجل يائس، ويجني ثمارها أحمق بائس. المجتمعات تجد صعوبة في العيش وفق أنماط ثقافية واجتماعية صارمة جدا. وتحتاج زمنا طويلا للامتصاص والتعود على تلك الصرامة، لكنها لا تحيا بالتأكيد من دون المشاعر.
*
كاتب مغربي