انتقلت ليبيا تدريجيا في السنوات العشر الأخيرة إلى حكم العائلات، بعدما ظن الليبيون أن قبضة الأولاد انتهت مع رحيل معمر القذافي وأولاده.
هم ثلاثة رجال صارت العملية السياسية في المستقبل متوقفة على تآلفهم أو تنافرهم، وهم صدام خليفة حفتر وابراهيم الدبيبة ابن شقيقة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وسامي المنفي شقيق رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي. فقد انتقلت ليبيا تدريجيا في السنوات العشر الأخيرة إلى حكم العائلات، بعدما ظن الليبيون أن قبضة الأولاد انتهت مع رحيل معمر القذافي وأولاده. والغريب أن تلك الأخبار لا ترد في وسائل الإعلام المحلية، وإنما نطلع عليها في صحف ومواقع أجنبية. وهذه الصحف والمواقع تستقي أخبارها الخاصة من الطرف الأجنبي الذي يتعاطى مع «الأولاد». والتعاطي هنا لا يقتصر على المال والأعمال، مثل احتكار استيراد السكر والقهوة والطحين والسيارات وسواها من السلع المستوردة، وإنما تصل الأيادي الطويلة إلى تجارة التهريب، لتأخذ «حصتها» منها، وخاصة من تهريب النفط ومشتقاته.
ولم يكن تداخل هؤلاء في القرار السياسي والاقتصادي بالدرجة التي هو عليها اليوم، لكن بدأت لعبة القضم تُحجم مؤسسات الدولة، الواحدة بعد الأخرى، لكي تحل في مكانها، بما فيها الأجهزة الأمنية. وأشهر ضحايا هذا النهج القمعي النائبة والمحامية سهام سيرغيوة، التي اغتيلت في الشارع في بنغازي، على إثر تصريح حضت فيه على الانفتاح على المنطقة الغربية والحوار مع زعاماتها. وتردد آنذاك أن صدام خليفة حفتر هو المسؤول عن العملية. غير أن القضاء لم يستطع تعقُب الجناة وإنفاذ القانون على من ارتكب الجريمة. ولم يستطع قبل ذلك إظهار الحقيقة في مقتل نشطاء وحقوقيين آخرين، وحتى عسكريين في طرابلس ومدن أخرى، نذكر منهم الناشطتين الحقوقيتين سلوى بوقعيقيس وانتصار الحصايري. وإذا كان حفتر الأب والابن يجهلان من هو المسؤول عن تلك الجريمة، فهذا دليل على عجزهما عن ضمان أمن المواطنين في الشرق. أما إذا كانا يعلمان فهي حجة على تواطؤهما واشتراكهما في الجريمة.
هذه علامة قوية على أن الأمن الحقيقي منخرمٌ، وسيظل المواطن يعيش في مناخ من الخوف والترهيب، طالما أن الميليشيات التي «تحرس» المدينة، هي التي تُفجر المعارك بين وقت وآخر، في العاصمة وخارجها. وكانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أعلنت انزعاجها الشديد من استمرار عمليات الخطف والاعتقال التعسفي والاختفاء القسري للمواطنين والشخصيات العامة من قبل مختلف الجهات الأمنية في ليبيا، وخاصة في الشرق. أما الحكومة التي كان يُفترض أنها انتهت من الإعداد السياسي والمادي، لانتخابات عامة، قبل نهاية العام الجاري، فهي عاجزة ومتشبثة بالسلطة، بل وتشدُ عليها بالنواجذ. ويعود العجز إلى تآكل شرعيتها، بعدما انتهت مهمتها التي كلفها بها «منتدى الحوارالسياسي الليبي» الذي استضافت تونس جلساته التمهيدية. ثم انتقل المشاركون الخمسة والسبعون إلى الاجتماع في جنيف بين السابع والخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2020. وغير خاف أن قائمتين أساسيتين تنافستا ضمن أربع قوائم، على أن تشمل كل قائمة مرشحا لرئاسة المجلس الرئاسي ونائبين للرئيس، ومرشحا لرئاسة الحكومة. كانت المفاجأة أن قائمة المنفي والدبيبة هي التي فازت في المنافسة على قائمة عقيلة صالح وفتحي باشاغا. ومنذ ذلك اليوم والشقاق يعصف بالحياة السياسية الليبية، والنار مُستعرة بين «الإخوة الأعداء».
تحقيق في المال الفاسد
كان الاتفاق أن تُجرى انتخابات في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021 الذي صادف مرور سبعين عاماً على إعلان استقلال ليبيا العام 1951 إلا أن هذه الفرصة أهدرت كسابقاتها. ومن المشاركين في المنتدى، الذين «اشتغلوا» لإنجاح قائمة الدبيبة ابنُ عمه رجل الأعمال الثري، علي الدبيبة، الذي كان مُستلما محفظة الاستثمارات الليبية في أفريقيا على عهد معمر القذافي، كما كان عبد الحميد الدبيبة يُدير أيضا تلك المحفظة في أوقات أخرى. كما شغل منصب رئيس «جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية». ووعدت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة سابقا ستيفاني وليامز بإجراء تحقيق في المال الفاسد الذي اخترق «المنتدى السياسي الليبي» في حينه، لكن لم يظهر شيء من فحوى ذلك التحقيق، إذا ما وُجد أصلا. من هنا تآكلت الثقة التي كان الليبيون يضعونها في حكومة الوحدة الوطنية، التي لم يبق أثرٌ من وحدتها. كما تراجعت بالمقابل ثقة الحكام بشعبهم، الذي صار يتداول قصص الفساد ويُعبر جهارا وبلا خوف عن إصراره على بقاء ثروة الليبيين لأبناء البلد، ومنع تهريبها إلى الخارج. والأرجح أن الحركة المُضادة للفساد ستتوسع في الفترة المقبلة، وتشكل ضغطا على السلطات لحملها على محاسبة الفاسدين، والإطاحة بشبكات الفساد المعلومة من العام والخاص.
وما قد يُحرج حكومة الدبيبة هو تزامن تلك الانتقادات مع الحملة الرامية للإطاحة بوزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، في أعقاب زوبعة لم تقدر على التحكم فيها، لا هي ولا الدبيبة. وبالرغم من مراوغات رئيس الحكومة، الذي حاول في البدء التنصل من المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن اللقاء الذي عقدته الوزيرة في روما مع نظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين، فإن اللقاء سيُعطل مسار التطبيع بين ليبيا والدولة العبرية، لأن حركة الرفض التي أثارتها، أثبتت أن قطار التطبيع لا يسير في رمال الصحراء الليبية، وإذا ما فُرض التطبيع من فوق، فإن الحراك الاجتماعي، في معظم مناطق ليبيا، سيُلغيه. لذلك يبدو العجوز رفائيل لوزون، رئيس ما يُعرف بـ«اتحاد يهود ليبيا» (يُقيم في روما) متوكئا على عصا الثمانين عاما، في زيارة إلى ليبيا مؤخرا، لإقناع شعبها بمنافع التطبيع. وكان لوزون قام بالمهمة نفسها في عهد معمر القذافي.
دورٌ لصدام حفتر
لابد من الاشارة هنا إلى أن أكثر من طرف في المنظومة الحاكمة حاليا في ليبيا، يتطلع إلى السير على السجاد الذي سارت عليه الوزيرة مع نظيرها الإسرائيلي. والمؤكد بعد المعلومات التي تم تداولها في هذا الشأن، أن صدام نجل خليفة حفتر هو من رتب اللقاء بين الوزيرة والوزير. كما أن الدبيبة، الذي استغرب في اللحظات الأولى من حدوث اللقاء، هو من مهد له، بعقد جلسة عمل مع وزيرة خارجيته قبل سفرها إلى روما. كما أن اللقاء لم يكن عابرا وإنما كان اجتماعا رسميا استمر ساعتين، على ما قالت قناة «الوسط» الليبية. غير أن من دشن الاتصالات مع الدولة العبرية لم يكن سوى صدام خليفة حفتر، الذي زار إسرائيل، لمدة تسعين دقيقة، في تشرين الثاني2021/نوفمبر، قادما من دبي على متن طائرة خاصة، يُرجح أنها إماراتية. وأماطت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية اللثام في عددها الصادر يوم السابع من الشهر نفسه، عن الهدف من الزيارة، المتمثل في طلب الحصول على دعم سياسي ودبلوماسي من تل أبيب، لترشيح والده للانتخابات الرئاسية. ولم تُعرف أسماء المسؤولين الإسرائيليين الذين اجتمع معهم صدام حفتر، قبل أن يواصل رحلته من مطار بن غوريون إلى بنغازي. وتؤكد تلك الزيارة وزيارات أخرى غير معلنة إلى دول أخرى، أن من يُسمون بـ«القيادات الشابة» من أفراد العائلات الحاكمة في الشرق والغرب على السواء، استلمت الملفات الحساسة، وباتت هي المسؤولة عن التفاوض حولها، عبر قنوات سرية.
شأن أُسري سري
من هنا تبدو عملية التطبيع وكأنها شأنٌ أسريٌ وسريٌ يلجأ إليه من ينشدون الحظوة لدى أمريكا لتحسين صورتهم في الغرب. ومن أوائل الساعين إلى تلك الحظوة عبد الحميد الدبيبة، الرافض تسليم السلطة إلا لبرلمان منتخب، بينما يرفض الجميع أن يكون مرشحا للرئاسة ويستمر في الوقت نفسه رئيسا للحكومة المُشرفة على الانتخابات، أي أن يكون خصما وحكما في الآن نفسه. وكشف موقع «أفريكا إنتلجنس» الفرنسي، حسب بوابة «الوسط» الليبية، أن اجتماع المنقوش/كوهين كان مقدمة لاجتماع مخطط له بين الدبيبة ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. غير أن كشف كوهين للقاء روما، لخبط المشروع، فاضطر الدبيبة إلى النأي بنفسه عن مسار التطبيع، لاسيما في ضوء ردود فعل الشارع العنيفة، على تلك الخطوة، في مختلف المدن الليبية. لكن لا شيء يضمن لليبيين أن اجتماعات أخرى لن تُعقد في المستقبل، خاصة عن طريق الأقرباء، مع إحاطتها بالسرية المطلقة.
أخطر ما في هذا الدور السياسي الخفي لأعضاء الأسر الحاكمة أنهم يحلون محل الدولة، فتغدو رغباتهم قرارات وتعليماتهم قوانين. يكفي أن نضرب مثلا بالسلطات المطلقة لصدام خليفة حفتر في المنطقة الشرقية، التي ورث إدارتها عن والده، بعدما اضطرته أمراضه إلى التخلي عن بعض السلطات لابنه صدام، الذي عينه عميدا وقائدا لـ«الجيش الوطني». وهكذا باتت مؤسسات الدولة في المنطقة الشرقية، رهن بنان حفتر الإبن، فاجتاح الخوف من بطش مخابراته جميع الأوساط، بمن فيهم النخب الأكاديمية والسياسية والإعلامية، مع أن هذه المنطقة (الشرق) كانت على درجة كبيرة من الحيوية والعطاء الثقافي والسياسي، وخاصة بنغازي ودرنة. أما اليوم فلم تعد تصدر صحيفة واحدة في الشرق، وتعرضت وسائل الإعلام الأخرى إلى التضييق إلى أن اضطُرت للاحتجاب، وهو وضع لم تعرفه من قبل، حتى في أحلك أيام حكم معمر القذافي وأولاده. واللافت أن هذا المناخ مُطابق لأجواء الاتحاد السوفييتي السابق، قبل البريسترويكا والغلاسنوست، حينما كان الفرد يُسحق بماكينة الدولة المتجبرة. وقد سحقت ماكينة آل حفتر العشرات من الضباط السابقين والمثقفين من اتجاهات مختلفة. ومن بين هؤلاء الدكتور بلقاسم العبيدي (51 عاما) الأكاديمي والأستاذ الجامعي الذي يقبع في سجن تابع لجهاز الأمن الداخلي الموالي لحفتر، بمدينة بنغازي، منذ أواخر حزيران/يونيو الماضي، على خلفية نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي. ويعارض العبيدي، خريج جامعة شيفيلد البريطانية، سيطرة حفتر وأبناءه على شرق ليبيا. وتسبب انتهاج هذا الخط الاستبدادي في انهيار الثقة بين سكان الشرق والقيادة التي تزعم تمثيلهم. وبالرغم من ذلك، يعتزم صدام حفتر الترشح لرئاسة ليبيا، على ما يقول المقربون منه، وهو غير حاصل على الثانوية العامة. وليس سرا أنه مرشح الإمارات، وأن مصر غير متحمسة لترشيحه، بالرغم من علاقاتها المتينة مع والده. لكن الحديث عن الانتخابات اليوم سابقٌ لأوانه، لأن إجراءها أصلا غير مؤكد، والأرجح أنها لن تُبصر النور في العام المقبل، لأن جميع الأطراف تقريبا لديها مصلحة في استمرار الوضع الراهن.