أما اهتز الضمير العربي بعد تعرية النساء الفلسطينيات؟

نشرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تقريرا يفيد بإجبار مُجنّدات من قوة تابعة للجيش الإسرائيلي، خمس نساء فلسطينيات على التعري خلال مداهمة منزلهن في مدينة الخليل المحتلة. وقع الحادث في شهر تموز/ يوليو الماضي، في مداهمة جرت بعد الساعة الواحدة والنصف ليلا. وقد تراوحت أعمار النساء بين السابعة عشرة والثالثة والخمسين عاما، حيث تم إدخالهن الواحدة تلو الأخرى إلى إحدى غرف المنزل، وتم ترويعهن بكلب كان مع القوة الإسرائيلية، كي يرضخن لطلب خلع ملابسهن.
ويواصل التقرير ذكر التفاصيل بالقول، بأن المجندات كن يطلبن من كل واحدة الدوران عاريات أمامهن، تحت مرأى ثلاثة أطفال كانوا مرعوبين ويصرخون ويبكون في الغرفة نفسها. وقد أعلن الجيش الإسرائيلي في بيان صدر عنه، بأن تفتيش المنزل جرى بعد ورود معلومات استخباراتية تفيد بوجود بندقية آلية وذخائر. مضيفا أن كاميرات التصوير المثبتة في خوذ المجندات الإسرائيليات لم تكن في حالة تصوير، بمعنى أنه لم ولن يرى أحد من الجيش الإسرائيلي أجساد النساء الفلسطينيات.. فهل هنالك إهانة للكرامة الإنسانية أكثر من هذا الفعل؟ أليس ما حدث هو اعتداء جسدي واعتداء جنسي، واعتداء بكل المعايير الأخرى؟
يقينا كان في إمكان قوات الاحتلال عرض النساء الفلسطينيات على أجهزة إلكترونية للكشف إن كُنّ يُخبئنّ شيئا تحت ملابسهن من عدمه، لكن الهدف لم يكن البحث عما يخبئنه وحسب، بل كان المبتغى هو إذلالهن وإهدار كرامتهن الإنسانية وصولا إلى تدمير الذات، عندها يتوقف عامل الدفع الذاتي الذي يزرعنّه في نفوس أبنائهن في مقاومة المحتل. كما أنها رسالة إلى أزواجهنّ وأشقائهنّ، بأننا قادرون على إسقاط هيبتكم من خلال المس بنسائكم، إن تجرأتم على المقاومة، أو فكرتم في ذلك، وإذا كان تبرير ما حدث، بأن النساء الفلسطينيات بدأن ينخرطن في عمليات طعن وعنف ضد الجنود الإسرائيليين، وأن ذلك يُعد تهديدا عالي التكلفة للجنود ولبقية الإسرائيليين، على حد تعبير التصريحات الصادرة عن جيش الاحتلال. وأنه لا بد من التعامل مع النساء وتفتيشهن للحفاظ على أمن مواطنيهم وتخفيض سقف العنف الصادر عنهن. فهل حقا يمكن وصف ذلك بالعنف؟ أليس العمل ضد الاحتلال هو مقاومة يُشرّعها القانون الدولي، الذي يقول من حق الشعوب مقاومة الاحتلال بكل الوسائل؟ إذن في هذه الحالة يكون الحق إلى جانب المقاوم، وصفة العنف والتجريم تنطبق على كل ما يقوم به الاحتلال، وإذا كان هناك انخراط نساء بالمقاومة، أو مساندة المقاومين من الرجال، فهل هذا يُبرر إهانة الكرامة الإنسانية بهذا الشكل؟ لقد أهان جنود الاحتلال الكرامة الإنسانية للفلسطينيات السجينات في سجونهم مرارا وتكرارا، بالتالي فإن كل مبرراتهم عقيمة ولا معنى لها.

كل الأساليب اللاإنسانية التي اتبعها جنود الاحتلال وكل الجرائم التي ارتكبوها وما زالوا مصرين على ارتكابها، لم ولن تفت في عضد المقاومة الفلسطينية، بل ستزيدها إصرارا

إن كل الأساليب اللاإنسانية التي اتبعها جنود الاحتلال مع أهلنا في فلسطين على مدى عقود من الزمن، وكل الجرائم التي ارتكبوها وما زالوا مصرين على ارتكابها، لم ولن تفت في عضد المقاومة الفلسطينية، بل ستزيدها إصرارا وستعطي مبررا للرد الموازي عليها. كما ستدغدغ غريزة الثأر للنمو في نفوس الأطفال والشباب. وها هو الاحتلال ومنذ أكثر من سبعين عاما يجد نفسه أمام عملية مقاومة متواصلة، يتسلم رايتها جيل فلسطيني بعد جيل، حتى إن كان الفلسطيني اليوم يشعر بأنه وحيد في المقاومة والنضال والكفاح، من أجل انتزاع حقوقه وسيادته على أرضه، وحقه في العيش بحرية وكرامة في وطنه، في حين أن العالم كله يصمت على جرائم وحشية لا يمكن السكوت عنها. ولو قام بهذه الأفعال جنود من روسيا ضد نساء أوكرانيات، لوجدنا العالم الغربي كله يبكي دما ويصرخ ويصف هذه الأفعال بكل ما في لغات العالم من مفردات التجريم والتقبيح واللعن. ولوجد زعماء العالم المتحضر في هذا الفعل مبررا لتقديم المزيد من السلاح والعتاد إلى الأوكرانيين للثأر لنسائهم، لكن المعايير المزدوجة هي التي يتعامل العالم بها مع القضية الفلسطينية منذ أكثر من سبعين عاما وحتى اليوم. وإذا كان العالم الغربي قد تبنى الإجرام الإسرائيلي، وقدم الدعم المادي والمعنوي لمن يقومون به، وفضح بنفسه زيف شعاراته وكذب مبادئه بخصوص حقوق الإنسان، وإذا كانت المنظمة الدولية المشلولة تدعو من قام بالجريمة ضد النساء الفلسطينيات نفسه، إلى إجراء تحقيق في الواقعة، مشيرة الى إنها ستقف (ضد أي شكل من أشكال العقاب الجماعي) فعلام العرب تخلوا عن أهلهم وهجروا نخوتهم، وأداروا ظهورهم لكل قيم الأرض والسماء، بل حتى لقيم عصر جاهليتهم؟ فراحوا يتوددون للصهاينة ويهللون لزيارات مسؤوليهم، ويستبشرون بفتح السفارات الإسرائيلية في عواصم الأمة، ويوقعون عشرات الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والتجارية مع المحتل الإسرائيلي، وعندما يُسألون عن فلسطين يقولون إنها في القلب، وإن كل ما نفعله مع الصهاينة هو لتليين مواقفهم من الفلسطينيين. وها هو وزير الخارجية الإسرائيلي يقف في المنامة مبتهجا بفتح السفارة الإسرائيلية ويقول (دول الشرق الأوسط دخلت عصرا جديدا من التعاون والاستقرار والازدهار والسلام، نتيجة اتفاقيات السلام والتطبيع التي أبرمها القادة الشجعان). فهل القادة الشجعان هم من يضعون أيديهم بأيدي من يهدر كرامة نسائهم وشقيقاتهم وبناتهم؟ إن مشكلة النظام الرسمي العربي هي أنه كان يرسم سياساته تجاه القضية الفلسطينية، وفق ظنه بأن عوامل النجاح في القضية الفلسطينية هي بيد الولايات المتحدة، فقضى ردحا من الزمن في حالة انبطاح تام لواشنطن، واليوم هذا النظام نفسه بات يرسم سياساته تجاه أهلنا في فلسطين، اعتمادا على عوامل النجاح التي يتصور أنها بيد إسرائيل. وها هو في حالة انبطاح تام لتل أبيب، وفي خضم هذه السياسات المعطوبة نسي بأن أكثر المواقف إنتاجا للنصر المؤزر، هي عندما تكون المواقف الأخلاقية والقانونية والسياسية والعسكرية في وئام تام، لكنهم بدلا من ذلك قللوا من أهمية فوائد الخيارات الصعبة، وخلف حجاب من الخطب الرثة مارسوا واقعية ساخرة، تفتقر دائما إلى الشرعية في الداخل والخارج. كل هذا جعل زعماء إسرائيل يحققون ما يريدون ويحتفلون بعدوانيتهم على أهلنا في فلسطين بأبشع صورها اللاإنسانية، لأنهم باتوا مطمئنين إلى أن كل ما يفعلونه خال تماما من التكاليف السياسية والأمنية.
إن إجراء الحساب السياسي النهائي حول كيفية تعامل الحكومات العربية مع القضية الفلسطينية، يجعل من الصعب على الزعماء العرب الاختباء من العدد الهائل من الجرائم التي فعلها الصهاينة بأهلنا، نتيجة المواقف السلبية لهؤلاء الزعماء من هذه القضية، واتخاذهم دور المتفرج من بعيد على ما يحدث. ويقينا هم على دراية تامة بالتهمة التي ستوجه إليهم، فلا توجد ظلال رمادية في عدم التسامح مطلقا، خاصة وأنهم ومنذ عقود من الزمن، بدلا من اتباع استراتيجية واضحة تجاه القضية الفلسطينية، كانوا يرتجفون من الولايات المتحدة فيتراجعون عن التعديل أو التغيير، ثم يكررون المواقف نفسها مرة أخرى. وهذا الارتجاف والانحراف والتكرار جعلهم أسوأ المتسابقين في تحقيق مصالح الأمة، وها هم الآن قد فقدوا كل رأس المال السياسي.

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية