لطالما تحدثنا عن المغرب التاريخي والجغرافي، لكننا لم نكن نتحدث عن المغرب الجيولوجي، ولم نكن نعرف عنه شيئا لولا هذا الزلزال المدمر الذي لم يشهد المغرب مثله منذ قرن من الزمان، من حيث القوة والامتداد والعمق. لقد بين لنا الزلزال أن المغرب، وشمال افريقيا، مرشحان باطراد لمثل هذه الزلازل، وتاريخ المغرب الحديث يكشف لنا ذلك. وما جرى في الحسيمة ليس ببعيد.
إن المغرب الجيولوجي قبل المغرب التاريخي والجغرافي، ولا يمكن لأي كان ادعاء أنه سبق إليه تاريخيا أو جغرافيا. هذا المغرب الجيولوجي أيقظنا مؤكدا أن التاريخ والجغرافيا لا قيمة لهما إذا لم يأخذاه بعين الاعتبار ليس من أجل إحياء ماض أو توهم استرجاعه، أو اصطناع خريطة جديدة تقسمه إلى أجزاء منفصلة. إنه يتعالى عليهما لأن بإمكانه أن يخلف أكثر مما يمكن أن يخلفه التاريخ وهو يصنع الجغرافيا، أو العكس من دمار، وآثار خطيرة على البلاد والعباد.
يفرض علينا المغرب الجيولوجي العمل الجاد والجدي من أجل بناء تاريخ وجغرافيا المستقبل، حيث لا فرق فيهما بين ما كان يُمَز فيه، في تاريخ بعيد نسبيا، بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، أو المغرب النافع والمغرب غير النافع إبان الاستعمار، الذي اتخذ صورا عديدة بعد الاستقلال، فيما صار يفرق فيه بين المركز والهامش، مع التشديد بالأخص على ما يسمونه بالمغرب العميق، وأسميه العتيق بكل ما في الكلمة من معان متضادة لأنها فعلا تعكس الواقع الفعلي والمادي. كانت الهزة الأرضية شديدة، لكن الاهتزاز النفسي كان أشد. وكانت آثار التدمير قوية. لكن الهلع والخوف رفعا درجة الإحساس النفسي بما وقع إلى أعلى المستويات، التي لا يمكن أن يخطر ببال، أو أن يكون قابلا للوصف، والمتخصصون يؤكدون أن ما يفصل بين هذه الهزة ونظيرتها قرن من الزمان. لا يمكن لمثل هذه الرضة، إلا أن تكون مأساة حقيقية تجرع المغاربة مرارتها، وكان المتضررون منها، شهداء كانوا أو مصابين، أبرز ضحاياها، كما أن عائلات هؤلاء وأولئك أكبر من عاش آلام الفقد والحرمان. ولا يخفى أن الجفن المغربي لم يطرف إلا على دمعة حرى، أو على حزن دفين. فحتى من وصلتهم آثار الزلزال القوي افترشوا الخوف، وتغطوا بالهلع. لكن هذا الحدث الجلل كشف كما ظلت مثيلاته من أحداث تكشف عن المعدن الأصيل للمغربي، الذي يختزل في التعبير الدارج: «احنا المغاربة» بما يختزنه من معان ودلالات. إنه يذكرنا بما وقع إبان كورونا، ومأساة الطفل رايان، وفي غيرها من الأحداث القديمة والحديثة، التي يبين فيها المغاربة أنهم قلب واحد لجسد واحد متى اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. كان التضامن والتكافل والتعبير عن المشاركة بالقول والفعل، والعقل والإحساس، من لدن مختلف فئات الشعب وطبقاته ومسؤوليه في القطاعات المتعددة دالا على أن المعدن الأصيل والحر لا تزيده الشدة والبلوى إلا صفاء وصلابة. وكان لتعاطف المثقفين والشعوب العربية والإسلامية والحرة في العالم مع المغرب كافيا لإبراز ما يحتله على الصعيد العالمي من مكانة في النفوس الحقيقية.
يعرف المغرب الآن نهضة عمرانية نوعية. فكلما زرتُ الرباط وجدت تغييرات لا حصر لها تجعل كل من يزورها يقول إنها فعلا عاصمة الأنوار، وهذه التغييرات بدأت تطفو على الكثير من المدن المغربية، ولعل أهمها يبرز في تكاتف الجهود لمحو مدن الصفيح، وتقدم لنا تمارة والصخيرات وغيرها من المناطق المغربية أمثلة دالة على ذلك. ولا يمكننا إلا أن نبتهج لهذه التحولات التي توحي بأن المغرب يتحرك بسرعة قصوى في سبيل تحديث بنياته التحتية. لكن آثار الدمار التي خلفها الزلزال في المناطق المنكوبة لا يمكن إلا أن تجعلنا نستعيد مقولة «احنا المغاربة» في بعدها الآخر. لقد بقيت البادية المغربية، ليس في الجبل فقط، ولكن في السهل أيضا، بل حتى في السهل الذي لا يبعد عن الرباط والدار البيضاء إلا ببضعة كيلومترات خارج الزمن الحديث، ولذلك أفضل مصطلح العتيق على العميق، لقد بقي عتيقا في كل شيء. إن الأعمدة التي دمرها الزلزال، والبناءات التي بنيت بالطوب والتبن، والطرقات غير السالكة، والسالك منها غير المسلوك، ناهيك عن المرافق الحيوية والضرورية للحياة، ظلت على حالاتها القديمة التي جعلت البادية خزانا للانتخابات التي تقدم لنا مسؤولين وبرلمانيين لا علاقة لهم بها إلا للفوز بأصواتها والتنكر لها. والعجيب في أمر هذه الطينة من الناس التي تستغل الفقر والهشاشة وحسن النية تظل هي التي تتصدر نتائج الانتخابات ليس لسنوات، ولكن لعقود. من المسؤول عن إبقاء المغرب العتيق عتيقا؟ أسئلة كثيرة تطرح عن أبناء هذه البوادي المعزولة عن المغرب الحديث، وعلى كل المسؤولين الذين يديرون الجماعات والمجالس، وعلى الأحزاب التي تمكنت من أن يكون لها وجود في تلك المناطق النائية والمعزولة. عندما يصبح المغرب الجيولوجي والعميق جزءا من اهتماماتنا الدائمة نكون نعطي لـ«احنا المغاربة» محتوى يجعلنا جسدا واحدا يتحرك بسرعة واحدة.
كاتب مغربي