مركّب النقص اللغوي

كثيرة هي الأدواء التي نعاني منها ولا نزور لأجلها الطبيب، لا لأننا مستغنون عن الأطباء، بل لأنه لا طبيب يُذكر لتلك الأدواء. ومن غفلة الدهر أن إصابتنا بها وإن كانت مزمنة وقاتلة أحيانا فإنها لا تذكر في أسباب الموت.
كثيرون منا نحن الذين ننتسب إلى الأمة الواسعة، أو إلى ثقافاتنا الوطنية أو المحلية مزودون ثقافيا بمركبات النقص أو الزيادة التي كثيرا ما ننجح في إخفائها، غير أنها قد تظهر في غفلة منا على سطح كلامنا، أو تعاملاتنا الثقافية المختلفة.
بما أنني لغوي، فإنني سأختار من هذه الأدران النفسية والأمراض الثقافية المزمنة ما سأسميه هنا مركب النقص اللغوي قاصدا به نوعا من المركبات الناجمة على تركيزنا على ما قد نعتبره نقطة عيب لغوية لم نستطع إخفاءها وهي تشعرنا بالدونية بالنسبة إلى آخرين.
ليست اللغة أداة تواصل فقط قد يكون التواصل وظيفة اللغة المهيمنة في سياقات تخاطباتنا اليومية؛ لكن اللغة يمكن أن تكون وعاء نفسيا كبيرا يحوينا بعواطفنا وبمشاعرنا وبأفكارنا وبكل شيء فينا. وأنت تتكلم على سبيل المثال بلغة موليير أو شكسبير قد تشعر أنت العربي بأنك تتقن لغة لا يتقنها غيرك، فأنت تملك شيئا ثمينا لا يملكه عامة الناس، يدفعك إلى أن تشعر بالاعتداد إن زاد صار مركبَ زيادة.
تكون اللغة مركبا حين تشعر وأنت تتكلم بشيء من الاعتداد أو الشموخ أو الكبرياء أو الأنفة وأنت تتكلمها، وعلى العكس من ذلك يمكن أن يشعرك الناس بأنك تتكلم لغة أو لهجة أو لكنة في مرتبة أقل من غيرها: انت عندئذ لا تتكلم وحسب، بل تتكلم وتشعر وأنت تنجز لغة ما بمركب ما.
حين كنت طفلا انتقلت من ريف ناءٍ إلى قرية، فانتقلت معي عاداتي الريفية التي كانت اللغة جزءا منها. لاحظت وأنا ابن الخامسة من عمري أن من كانوا يستمعون إلى لكنتي القديمة يميلون، كل على طريقته إلى الاستغراب من الأداء، التي تصل أحيانا إلى حد المحاكاة الساخرة. أدركت وأنا طري العود أن هناك شيئا ما سلبيا في لكنتي عليّ أن أغيره؛ عدت إلى أمي كطفل كان يلبس ثوبا مثقوبا على جسده ولا يريد أن يرى الناس عيبه ذاك، لكن يمكن لأمي أن ترتق الفتق في لحظة فكيف لها أن ترتق فتقا لغويا أحمله على جسم ثقافي هش؟ لكن أمي ساعدتني أنا واختي على أن نتحدث كما يحب أهلها وعشيرتها فهي «بنت البلد» ولا مشكلة في تعليمنا عادة قريتها اللغوية غير المختلفة كثيرا عن عادة الريف، الذي كنا فيه، والحمد لله أنها عدلت لكنتنا قبل دخولنا المدرسة.
حين كبرت أدركت أن العقدة اللغوية أكبر من الفرق بين تفاصيل لهجتين؛ فلقد كشفت لنا المدرسة عقدا لغوية أخرى. كان أول اكتشاف لي هو عقدة من يتكلم «الفصحى» ممزوجة بالعامية. كم كان يثير الضحك والسخرية أن لا يجد أحدنا العبارة العربية ويبحث عنها في المخزون المعجمي المتاح، معجم العامية. كان المعلم وهو ابن لهجتنا يزري كثيرا بمن يفعل ذلك كمن ارتكب جرما لا يغفر ويضحك الأتراب في الفصل. العامية هي إذن مركبنا الناقص الجديد، إن تحدثنا بالعربية المعيارية. كنا نفرح حين يقرأ المعلم إنشاءنا بالفصحى ويشيد بـ»فصاحته» وأنه لم يفكر بالعامية. في لكن ما معنى أن نفكر بالعامية؟ كانت تلك عبارة أعظم من مستوانا وقتها، بل أعظم من مستوى المعلم الذي كان يرددها.
الضحك على عاميتك المحشورة كالغريب في الفصحى كان يشعرك بأنك بربري خشن غير مهذب اعتديت على جميلة ظريفة مهفهفة تكاد ترى دماءها تجري في عروقها مما يشف عنه جسدها اللغوي: هي العربية «الفصحى». الفصحى في تصورنا كانت هي اللغة المهذبة وكانت العامية اللغة الهمجية. يا للعجب: كيف نستطيع أن نتنكر ونحن منغمسون في فصل العربية للهجاتنا التي نتكلمها بيننا في كل مرة، بل التي نتهامس بها ونحن نهزأ ممن يرتكب هذا الخطأ؟
ما حدث للعامية وهي تقارن بالعربية بعقد التفوق/الدونية يحدث للعربية نفسها مقارنة بالفرنسية لغتنا الثانية. كان أستاذ الفرنسية يعيد على مسامعنا الجملة الشهيرة: «لا تفكروا بالعربية وأنتم تتكلمون الفرنسية» أقول لنفسي: هل سأخرج من جلدي وأتخيلني رجلا إفرنجيا يرطن الفرنسية ويفكر لا كما أفكر بالعامية: يفكر أفضل.

كان من يتكلم الفرنسية وينطق الراء غينا على عادة الباريسيين شخصا راقيا جدا يشبه من يلبس رباط عنق وكسوة إفرنجية ويكون أشقر الشعر أزرق العينين. وحين كبرنا صرنا نرى من الأناقة أن نحدث من نحب في الحب بلكنة فرنسية ومارسنا «التجمل» و»التخفي» والصلف ونحن نتكلم الفرنسية.

كان من يتكلم الفرنسية وينطق الراء غينا على عادة الباريسيين شخصا راقيا جدا يشبه من يلبس رباط عنق وكسوة إفرنجية ويكون أشقر الشعر أزرق العينين. وحين كبرنا صرنا نرى من الأناقة أن نحدث من نحب في الحب بلكنة فرنسية ومارسنا «التجمل» و»التخفي» والصلف ونحن نتكلم الفرنسية. شعورنا بأن عربيتنا أو عاميتنا تفضحنا وأن علينا أن نتجمل بالفرنسية شعور يخفي مركباتنا اللغوية القديمة والمتجددة. واليوم حين يتكلم شبابنا الإنكليزية يشعرون بأنهم يتكلمون اللغة الأولى في العالم وأن الفرنسية لم تعد هي اللغة الأنيقة؛ هم يشعرون بأنها لغة آبائهم من المثقفين القدامى الذين ينظرون إليها مثلما ينظرون إلى الأناقة: عطر باريسي قديم وربطة عنق وبدلة من الستينيات تبعث من الرف وتكوى جيدا وتلبس خارج منظومة الموضة العالمية.
لقد عرضت لك من التجربة اليومية المعيشة ومن داخل أسوار المدرسة والجامعة ومن خارجهما نماذج من سلوكاتنا اليومية تصور لك كيف أن اللغات تعيش كما تعيش الثقافات: تختلط لكن لكل منها مقاما في النفوس، وأن وراء كل إنجاز منها قد يتخفى ضرب من العُقد التي تجعلنا نضع اللهجات واللغات في كفات مختلفة ونزنها بموازين متنوعة. المحققون القدامى قالوا لنا إنه لا تفاضل بين اللغات لكنهم كانوا يردون على موجة من المركبات النفسية، كانت تفاضل بين اللغات في هذا الجو عاشت العربية مع مناصريها ما يسمى بالشعوبية، وفي هذا الجو سمى العرب غير لغتهم الفصحى أعجمية، وسموا ناطقيها أعاجم: يعني أنهم كالطير يتكلمون فلا يبينون ولا يفصحون وحين يريدون الفصاحة والبيان عليهم بصراط مستقيم: لغة الضاد.
واللسانيات الحديثة اليوم تقول لنا القول نفسه ونحن نردده في دروسنا: إنه لا فضل للغة على لغة ولا للغة على لهجة، كل متكلم وهو ينطق بلسان لا هم له إلا أن يحدث غيره لا أن يفضله أو ينبزه بلسانه.
لكن أنى لأعظم اللسانيين في العالم بمن فيهم دي سوسير نفسه، أن يرد إلى عربي كبرياءه المشروخ حين يمتهن في بلد يكره لسانه؟ وأنى يدافع لساني عن افريقي يتحدث في مترو في العالم «المتحضر» مع ابن جلدته بلكنتهما الافريقية ويصدر ضده كاره لجلدتهما وللغتهما أبشع النعوت سرا أو علنا؟ هل سينفع درسٌ في نبذ «المعيارية اللغوية» في أن يقنع هذا الذي يحكم على العربية أو اللهجة الافريقية انطلاقا من كرهه الظاهر لمن يتكلمهما؟ هناك من يكره العاميات اليوم ويعتقد أنها سبب البلية، وهناك من يكره اللغات الأجنبية ويعتقد أنها سبب البلاء، وهناك من يشعر وهو يتكلم بلهجة البدو في العاصمة، أنه مقصر في شيء ما ولذلك عليه أن يتكلم بلكنة الحضر هناك كثيرون ينغمسون في لغات من يحلون بينهم ويختفون فيها ولا يريدون أن تعريهم لغتهم الأم: تكشف عيوبا صنعتها قوى مرهبة للثقافات الأخرى بلا وجه حق.
الإنسان ليس كائنا لغويا فقط، بل هو كائن لغوي نفسي له في كل إنجاز يتقنه مواجيد وعقد تكونت له عبر التاريخ، ولا يمكن أن ينفصل الإنسان عن لغته ولا يمكن أن تفصل بين حب الثقافة وحب لسانها أو كرهها، ولا يمكن أن تقف صدا أمام هذه العلاقات العنيفة بين اللغات، والتي صنع عنفها صدام البشر عن طريق الثقافات. لو قلت لك الآن إن أخبار الساعة الثامنة التي تعودت أن تسمعها بالفصحى ستقرأ بالدارجة لشعرت بالاشمئزاز.. ولو قيل لك عليك أن تتحدث في المنزل بالفصحى لانزعجت أيضا، لأنك ابن عادتك اللغوية. إن اللغة يمكن أن تصنعها العادة ومع العادة تصنع المواقف ومع المواقف تصنع مركبات النقص أو الزيادة.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية