مشهدان يبدو، في الظاهر، أنه لا يجمع بينهما سوى المكان. في المشهد الأول: تستعد الكاتبة المسلمة المعروفة ياسمين البهائي-براون للنزول من الباص في شارع «هاي ستريت كنسنغتون» في لندن، فإذا بامرأة انكليزية تعتدي عليها فجأة بالشتم والبصاق دونما سبب. يرى الركاب الواقعة ولا يحرك أي منهم ساكنا. ذلك أن ياسمين من أبرز المدافعين عن المهاجرين وعن المسلمين في مختلف وسائل الإعلام وأنها من أصول هندية، وقد هاجرت عندما كانت صبية مع أهلها إلى بريطانيا في أعقاب قرار عيدي أمين طرد جميع أفراد الجاليات الآسيوية من أوغندا مطلع السبعينيات.
في المشهد الثاني: تخصص شهرية «ستاندبوينت» الفكرية اليمينية الصادرة في لندن صفحات كثيرة من كل عدد جديد لموضوع وحيد هو»الخطر الإسلامي الشامل». تنويعات في العناوين وذكاء في التناول وطرافة في توسيع زوايا النظر، ولكن الموضوع ثابت لا يتبدل. ولهذا كتب المعلق بيتر ويلبي أن المجلة ستكون أبعث على الاهتمام (بالنسبة للقراء غير المنتمين إلى اليمين الفكري أو السياسي) لو أنها عملت فعلا على تحقيق الطموح المعلن للجهة الناشرة لها (وهي المؤسسة البحثية المسماة «وحدة الشؤون الاجتماعية»): أي السعي لبلورة تحليل سوسيولوجي للمشكلات المعاصرة انطلاقا من مبادىء اليمين.
وكان الذي حدا ببيتر ويلبي إلى إبداء هذه الملاحظة أن رئيس تحرير «ستاندبيونت» دانيال جونسون كتب أخيرا أن مجلته نذرت نفسها منذ تأسيسها قبل حوالي سبعة أعوام للدفاع عن الحضارة الغربية. هكذا! الدول الغربية في موقع الدفاع! لأن الدول الشرقية هي التي في موقع الهجوم: بدليل أن العراق هو الذي غزا الولايات المتحدة واحتلها عام 2003 وبدليل أن الطائرات الأفغانية واليمنية بدون طيار هي التي تغير منذ سنوات على المدنيين وتقتل النساء والأطفال في فيلادلفيا ولوس انجلوس ومانشستر وليفربول!
لا علينا. المجلة مخلصة في الدفاع عن الحضارة الغربية. ولذلك فهي «تسعى إلى توسيع نطاق تحالفاتها في وجه المخاطر المتكاثرة». ولكن الأمر ليس سهلا، لو تعلمون! لماذا؟ لأن هنالك، حسب جونسون، «كتّابا يجلبون لقضيتنا من الضرر أكثر مما يجلبون لها من النفع». أما أبرز هؤلاء الكتاب الغربيين المضطلعين بدور الطابور الخامس فهو الفيلسوف السياسي المتميز جون غراي. ما الذي أتاه غراي؟ إنه يشكك، في كتابه الجديد، في زعم الحداثة تحقيق مطلب الحرية، ويرى أن «الشرخ في تصميم الفكر الغربي إنما يتمثل في الأخذ بالأدرية (نقيض اللاأدرية) القائمة على مبدأ أن الحرية وليدة المعرفة».
كما تكتب المجلة في العدد نفسه أن أكبر المخاطر على الحضارة الغربية آتية من مصادر ثلاثة: العلمانية العدوانية، والتعددية الثقافية، والإسلاموية. فما الجامع بين المشهدين؟ إنها العنصرية. مغلفة بالأفكار في الدوريات والمجلات، ومفتضحة بالشتائم في الشوارع والحافلات. وليس من الصعب ملاحظة أن أبرز مظهر للعنصرية في المجتمعات الغربية لا يتمثل في كره الأجانب عموما أو السود أو العرب خصوصا، بل إنه يتمثل في «الإسلاموفوبيا»، أي رهاب الإسلام ومقت كل ما يمت إليه، فعلا أو وهما، بصلة: المسلمون، والمساجد، والأذان، واللحى، وظاهرة القميص الأفغاني فوق الحذاء الرياضي، والحجاب قبل أن يدركه (وبعدما أدركه) النقاب، و»الأصوات والروائح»، كما قال شيراك يوما.
يضاف إلى ذلك أنه قد زج بالإسلام في قضيتين لا علاقة له بهما: أي ختان البنات المنتشر بين الجاليات القادمة من بعض مناطق الشرق الإفريقي، والتزويج القسري المنتشر بين الجاليات القادمة من بعض مناطق الجنوب الآسيوي. تنشأ البنت في مجتمع أوروبي وتذهب للمدرسة وقد تتفوق في الدراسة وتنفتح أمامها إمكانات النجاح وتحقيق الذات. ولكن أهل هذه البنت المالكة لأمرها السيدة على نفسها، حسب ثقافة المجتمع الحر الذي نشأت فيه وبمقتضى قوانينه، يجبرونها إجبارا (يبلغ حد التخويف والتهديد في بعض الحالات) على الزواج من أحد أبناء عمومتها ممن لم يحدث لهم أن خرجوا من قريتهم النائية في عمق ريف بلادهم إلا مرة واحدة لقضاء معاملة ضرورية في العاصمة.
هذه حقائق تخلف اجتماعي وثقافي سافرة. ولكن لا بد لأحد أن يطمئن جونسون المرابط على أحد ثغور الامبراطورية الغربية أن هذا التخلف، المشتت في تعبيراته، لا يرقى إلى حد تهديد الحضارة الغربية لا في وجودها ولا في قيمها، هذا على فرض أنها تلتزم فعلا بما تزعمه لنفسها من قيم.
٭ كاتب من تونس
مالك التريكي
المضحك في الأمر ان تخيف ثقافات متخلفة هذه الحضارة الغربية العظيمة .اعتقد ان العجرفة والعنصرية و الايغوسونتريزم أمراض يصعب شفاءها .تبقى المشكلة في تفكيرنا نحن بالأساس …
من وجهة نظري هذا عنوان رائع يا مالك التريكي وأظن خير مثال عملي عليها المسيرة الفنية لميل جيبسون كمواطن أسترالي اطلع على فضائح طريقة بناء دولة “الحداثة” على الغش والخداع في الضحك على ابناء البلد الأصليين من خلال استغلال الجهل باللغة والترجمة حيث استغل الإنجليز كتابة عقدين بلغتين ونصيّن مختلفين تماما، وأضافوا بكل خبث في نص اللغة المحليّة أنَّ النّص المعتمد قانونيا هو النص الذي باللغة الإنجليزية، فلذلك تجده في العديد من أعماله الأولى في هوليود، تقمّص دور رجل أمن يمثل دولة “الحداثة” يضرب القانون عرض الحائط من أجل حماية المجتمع، في حين في العديد من آخر أعماله تجده يمثل دور المواطن في مقاومته ظلم واستبداد واستعباد السلطة التي بيد النخب الحاكمة والتي تستغل القانون لتطويعه في عبودية المواطن أو الشعب التي أوضحها في فيلمه الأخير عن المسيح على الأقل من وجهة نظري.
أنا لاحظت اشكالية مثقفيّ وسياسييّ ثقافة الـ أنا لدولة “الحداثة”، لعدم اعترافهم بوجود أي شيء إلاّ ما هو من ضمن الـ أنا الخاصة به، لا يمكن أن يُجيد النقد ببساطة لعدم استيعابه كامل الصورة، فلذلك النقد بالنسبة لهم يساوي مفهوم جلد الذات، والذي في معناه الحقيقي (جلد الذات) لا يتجاوز مفهوم اللطم وشق القدود والبكاء على الأطلال، ومن هذه الزاوية يكون هو جزء من المشكلة في دولة “الحداثة” التي يمنع من خلالها النقد بحجة لا صوت يعلو على صوت المعركة وضرورة الاصطفاف خلف النخب الحاكمة وإلاّ فأنت خائن، فأي حرية وأي بطيخ في مثل هذه الأجواء إن كان على شاكلة ما تنتجه مجلة شارل إيبدو الفرنسية بحجة أن له علاقة بالنقد؟!
أنا أظن أنّ المسيرة التي تمت في تونس العاصمة مؤخرا، بخصوص ما حصل في متحف باردو، هي نسخة طبق الأصل للمسيرة التي حدثت في باريس، بعد العملية على مجلة شارلي إيبدو والمتجر اليهودي في بداية هذا العام 2015، وكانت للتغطية على فضيحة تقصير الدولة العميقة للسامري (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية)، حيث كيف يمكن لـ 80 ألف عنصر لم يستطع ليس فقط منع بل وحتى القبض على من كان تحت المراقبة ممن قام بالعملية، خصوصا وهناك أزمة اقتصادية ولكي يمكن تمرير زيادة الموازنة بالرغم من التقصير الواضح، ولذلك كان يجب عمل تمثيلية للضحك فيها على الشعب في فرنسا أو تونس، وهذا بالتأكيد سيسرع من إفلاس دولة “الحداثة” كما هو حاصل في اليونان مثلا.
ما رأيكم دام فضلكم؟