في عام 1953 ابتكر العالم فيان بوريس VIAN Boris أسطورة (الإنسان الآلي الشاعر) في كتابه الشهير «الشاعر الآلي لا يُخيفنا» Un robot-poete ne nous fait pas peur هذا الأمر أثار ردود أفعال قوية حينها، على اعتبار أن ذلك سيجعلنا نتخلى عن البعد الإنساني فينا، فهل يمكن فعلا أن يتحول الروبوت إلى شاعر؟ كان هذا قبل أن يستخدم الأدب آلة الحاسوب. بعد ذلك بقليل، أصبح الأدب الرقمي يفرض نفسه شيئا فشيئا، ولعل بين أهم المنظرين لهذا الأدب فيليب بوتز، من خلال كتابه المهم «ما الأدب الرقمي؟» Q est ce que la litterature Numeriqueحيث يستعرض فيه التحولات الجذرية التي طرأت على الممارسات الأدبية والثقافية في عصر الرقمنة، مثل التداخل بين النصوص والوسائط الأخرى مثل الصور والصوت، وتوسع مجال الكتابة ليشمل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كما وضح، في هذا المرجع المُؤسِّس، كيف يمكن للكتابة الرقمية أن تتجاوز الحدود التقليدية للصفحة المطبوعة، وتمنح الكتّاب فرصا جديدة للتعبير والابتكار.
مرّ وقت قصير جدا على انتشار الأدب الرقمي، لكي نرى كيف أن نبوءة فيان بوريس قد تحققت، فلا شك أن العالم الآن، يعيش في عصر يعرف ثورة خطيرة جدا، وتطورا هائلا ومستديم التصاعد في مجال التكنولوجيا، لدرجة أن الإنسان أصبح من الصعب عليه استيعاب هذه اللحظة. ومن بين التطورات الملحوظة في العقود الأخيرة يأتي الذكاء الاصطناعي، الذي يعتبر اختراقا خطيرا في مجال التكنولوجيا، وهو ذكاء يهتم بتطوير أنظمة تكنولوجية قادرة على محاكاة القدرات الذهنية البشرية، وتنفيذ المهام التي تتطلب ذكاءً وتفكيرا عاليين. وعلى الرغم من أن هذا النظام الاصطناعي له تطبيقات واسعة في مجالات مختلفة مثل، الطب والصناعة والمالية، إلا أنه ما زال يواجه صعوبات جمة، حينما يطبق في عالم الشعر، لأن فن الشعر، فن بشري صرف، باعتباره تعبيرا فنيا وإبداعيا يتطلب قدرا كبيرا من الخيال والتعبير الفني المرتبط بالإنسان، دون غيره من الكائنات. صحيح أن تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل تعلم الآلة والشبكات العصبية الاصطناعية، يمكنها تحليل البيانات الضخمة، واستخلاص الأنماط والقواعد منها. كما يمكن لهذه التقنيات أن تدرس الشعر قديما كان أم معاصرا، وأن تفهم تركيبه وقواعده الفنية، ومن ثم توليد الشعر الجديد، بناءً على هذه القواعد، بطرق قد تكون مثيرة للاهتمام. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل مجموعة كبيرة من القصائد الشعرية، وتحديد الأنماط المشتركة فيها، مثل القافية والإيقاع وطرق استخدام اللغة، بل يمكن لهذا النظام الاصطناعي أن ينتج قصائد جديدة تستند إلى هذه القواعد، وفيها قسط من التعبير الشعري؛ إلا أنه مع كل هذا التطور الخارق، الذي أنجزه الإنسان ضد الإنسان أحيانا، يجب أن نقر بأن الذكاء الاصطناعي غير قادر بالمرة على اختراق تجربة العواطف البشرية، بالقدر نفسه الذي يستطيعه الشاعر البشري. علاوة على ذلك فإن هذا الذكاء الذي يبدو للبعض خارقا، هو كطفل صغير في طور التعلم، فإذا ما زوده شخص ما بمعطيات خاطئة أو أخطاء إملائية أو نحوية أو لغوية، فإن ما سيكتبه سيكون كارثة إبداعية لا صلة لها بالشعر إطلاقا.
علينا أن نعلم إذن، أن الشعر هو وسيلة للتعبير عن الأحاسيس العميقة، والتجارب الشخصية، وأن اكتساب خبرات ومهارات الكتابة الشعرية، يأخذ من الشاعر وقتا طويلا، بل إن الشعر هو فن مرتبط ارتباطا وثيقا بالإنسان، لأنه يصدر أساسا عن الخيال الذي هو ملكة خاصة بهذا الكائن وحده، مثلما هو تعبير، في الآن ذاته، عن تجارب وجدانية وعاطفية يعيشها الشاعر ولا تُملى عليه. إن الشعر حالة ثقافية إنسانية، تعكس تجارب ومواقف ورؤى الشاعر بشكل دقيق ومعقد، لدرجة يصعب معها، على الذكاء الاصطناعي، أن يفهم هذه العواطف، أو أن ينتج قصائد ذات محتوى عاطفي أصيل تضاهي مثيلاتها الإنسانية. والخطير في الأمر، هو أن الوضع يزداد صعوبة، بالنسبة لهذا النظام الاصطناعي، عندما ننتقل للمستوى التداولي للشعر، لأن هذا الأخير يعتبر منذ بداياته الأولى فنا تواصليا بامتياز، ذلك أنه يؤدي وظيفة تواصلية لا محيد عنها. فالشاعر يكتب للقارئ، كيفما كانت طبيعته، سواء أكان قارئا عاديا، أم قارئا نموذجيا بتعبير أمبرتو إيكو. لذلك فإن التفاعل مع القارئ أو السامع، يشكل عنصرا أساسيا في العملية الشعرية الإبداعية. وهذا ما لا يستطيعه الذكاء الاصطناعي، على الرغم من كل الإنجازات التي حققها في مجال منافسة الإنسان، من أجل التفوق عليه، أو السيطرة عليه، كما لوح بذلك ذات مرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، منذ وقت مبكر، وإن بشكل مبطن.
إن الذكاء الاصطناعي في محاكاته للقدرات البشرية، لا يمكنه البتة ملامسة تجربة التفاعل الفني والعاطفي الذي يحدث في النص الشعري، والذي عليه نراهن في تفسيرنا لأبعاد ودلالات واختراقات هذا النص. وبالتالي، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي والشعر يمكنهما أن يتعاونا معا في عالم الإبداع، مثلما يمكن لهذا النظام أن يكون إضافة مفيدة للشعر، كأن يكون مصدر إلهام بالنسبة للشعراء، لكن لا يمكنه البتة أن يكون بديلا عن الإبداع البشري، لأن الشاعر البشري يظل المسؤول الأول والأخير عن الإحساس والتجربة الشخصية والتواصل مع الجمهور.
وسأختتم هذا المقال بما انتهى إليه فيليب بوتز في كتابه المشار إليه أعلاه حينما قال: «لا تستطيع أي آلة أن تجري هذا النقل (يقصد الشعر) بمفردها، فهو يظل ميزة للإنسان. ومهما تضمن الآلة من معارف، فهي لم تعد تُعتبر اليوم إطلاقا مؤلفا، بل صارت حافزا. والمؤلف الحقيقي ليس هو الإنسان/الشاعر الآلي بل هو مصممه».
شاعر وكاتب مغربي