كاظم جهاد نقل «أسير عاشق» للعربية: للكتاب قوة شعرية وسردية وملحمية وشكّل ولادة ثانية لكاتبه

زهرة مرعي
حجم الخط
0

«حقائب جينيه» في معهد العالم العربي الكاتب الفرنسي الشاهد على صبرا وشاتيلا والكفاح الفلسطيني

بيروت ـ «القدس العربي»: في معرض «ما تقدّمه فلسطين للعالَم» المستمر في معهد العالم العربي في باريس إلى 19 تشرين الثاني/نوفمبر، بمناسبة الذكرى 75 لنكبة فلسطين، وتهجير شعبها على يد عصابات المستوطنين الصهاينة القادمين من أوروبا، فعالية ثقافية من أربعة أقسام. فعالية تُظهر حيوية شعب قبل وبعد تهجيره، وتتحرّك ضمن أربع مناطق، بينها الفن التشكيلي، والنحت، والتجهيز، ومجموعة كبيرة من الفوتوغرافيا.

في واحدة من مناطق المعرض يستدرج صوت محمود درويش الزائرين للدخول إلى قاعة «القصيدة». فيها لقاء معه في أمسية مصورة سنة 1983 يشدو بـ«مديح الظل العالي» وروحه تظلل المكان، وإلى ما بعده بكثير، وقريباً منه أسلاك عبد الرحمان قطناني تئن ولا تستسلم.
حقيبتا جان جينيه الصغيرتان بلونيهما البني والأسود هما الهدف. طويلاً تحفّز الشوق لمعرفة محتوياتهما وشكلهما. في المنطقة المخصصة لعاشق فلسطين انتشرت صحف وقصاصات وكتابات وصور ولوحات. أوراق دوّن عليها أفكاراً، أحدها يعود لفندق المنصور في كازابلانكا، وفندق الحمرا الجديد في بيروت. دفتر لحساب مصرفي، وفواتير، ورسائل كثيرة. وخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة سنة 1975 والبندقية من أجل فلسطين ديمقراطية.
«حقائب جان جينيه» أشرف على تهيئته الباحث الفرنسيّ ألبير ديشي، المختصّ بمخطوطاته. عن هذا الجناح ومحتوياته كان حوار مع الشّاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم بباريس كاظم جهاد، الذي ترجم إلى العربية كتاب جينيه «أسير عاشق» (منشورات شرقيّات، القاهرة، 1997. ومنشورات توبقال، الدار البيضاء 2002). ففي «أسير عاشق» صوّر الكاتب الفرنسيّ علاقته بنضال الفلسطينيّين وتأثيره عليه.
الحوار مع الأكاديمي كاظم جهاد:
○ بمناسبة الحضور المميّز لحقائب جينيه في معرض «ما تقدّمه فلسطين إلى العالم» نودّ معرفة تقييمك لكتابه «أسير عاشق» الذي قمتَ بترجمته إلى العربية. وماذا عن علاقته بمجمل مسيرة جينيه إنساناً وكاتباً؟
• في 20 تشرين الأوّل/أكتوبر 1970 بعد أيلول/سبتمبر الأسود بفترة قصيرة، ذهب جينيه لأوّل مرة إلى قواعد الفدائيّين ومخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين في الأردنّ. كان يعتزم قضاء ثمانية أيّام هناك، وإذا به يصبح «أسيراً عاشقاً» لشعب فلسطين ونضاله من أجل استعادة أراضيه وتقرير مصيره. فمكث هناك ستّة أشهر، ثمّ قام في أيلول/سبتمبر 1971 بزيارة ثانية للأماكن ذاتها دامت هي أيضاً شهوراً عديدة، وثالثة في تشرين الثاني/نوفمبر 1972 حيث اعتقلته السلطات الأردنية وطردته من البلاد في الثالث والعشرين من الشّهر نفسه بتهمة إثارة الشّغب. وطيلة أربعة عشر عاماً، دأب جينيه على صياغة ذكرياته وانطباعاته عن عالم الفلسطينيّين المنفيّين الثّائرين، وربَطها بذكرياته وانطباعاته عن تجربة «الفهود السّود» في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وتجارب نضاليّة أخرى. أسفر هذا كلّه عن كتاب ضخم منحه عنوان «أسير عاشق» صدر عن منشورات غاليمار بباريس في تمّوز/يوليو 1986 وقد توفّي الكاتب في 14 نيسان/أبريل 1986 وهو يصحّح تجاربه المطبعيّة الأخيرة.
دوّن جينيه هذا كلّه بصورة متقطّعة تكشف قراءة الكتاب والصفحات المعروضة من مخطوطته في هذا المعرض عن أنّها كانت مع ذلك متماسكة ومطبوعة بتواصل وانسجام كبيرَين. وقد حرص على العودة في الكتاب مراراً إلى تأثير اكتشافه لنضال الفلسطينيّين ولِفهمهم لمأساتهم الوطنية والإنسانية على فهمه لتجربته الشخصية. شكّل له الكتاب نوعاً من ولادة ثانية، هو الذي كان قد قرّر منذ بلوغه سنّ الخمسين التخلّي عن الكتابة. وقد دُهش هو نفسه من رسوخ ذكرياته تلك في وجدانه وصميم وعيه إذا كتب في «أسير عاشق»: «من دون أن انتبه حقّاً، انطبعَ كلّ حدث وكلّ كلمة في ذاكرتي».
كما يفصح جينيه عن تردّد كبير كان عليه أن يقهره ليلمّ شتات ذكرياته ويوحّدها ويدفعها إلى الطبع. فهو يتساءل مراراً وتكراراً هل سيستطيع أن يتجنّب فخاخ اللّغة والذاكرة والكتابة، التي لا تقدّم في العادة سوى «الجانب المرئيّ للأحداث» بتعبيره هو نفسه. ويتساءل خصوصاً: ألن يرتكب خيانة للفلسطينيّين بتحويله حياتهم ونضالهم إلى موضوع عمل أدبيّ؟ ولهذا الباعث بلا شكّ، وبالرّغم من قوّة الكتاب السرديّة والشعريّة وامتداده الذي يمكن نعته بالملحميّ، أعربَ جينيه عن تمسّكه، في توصيفه لعمله هذا، بكلمتين أساسيّتين في نظره: «التحقيق الصّحافيّ والشّهادة». أي أنّه أراد تقديم «ريبورتاج» عمّا شاهده، وتدوين شهادة شخصيّة عن معايشته لنضال الفلسطينيّين وتجربتهم الواسعة في المنفى والنّضال. هذا التوصيف ينطبق على الدقّة التي توخّاها في المعاينة والرّصد، لكنّ قراءة الكتاب وعلوّ لغته يثبتان أنّه يتعدّى، ومن بعيد، حدود التحقيق الصحافيّ والشهادة الأدبيّة.
○ بالدخول إلى الحيّز العاطفيّ، كيف عبّر جينيه عن عشقه لفلسطين وإيمانه بها كقضية أخلاقيّة؟
• بقدر ما نتقدّم في قراءة «أسير عاشق» ندرك أنّ إقامة جينيه بين الفلسطينيّين في الأردنّ، وممارسته تمرين التذكّر المنعِش والمشبوب الذي ندين له بهذا الكتاب قد عادتا له بسكينة أو سلام واضح مع نفسه، وبارتباط مستعاد بقوّة مع فعل الكتابة. لذا وصفتُ هذا الكتاب بأنّه كان له بمثابة ولادة ثانية. وليس عديم الدلالة أن يكون وجد في أمّ أحد الفدائييّن، حمزة، انبعاثاُ أو بديلاً لأمّه الحقيقيّة التي لم يعرفها. وهو يصف علاقته بأمّ الفدائيّ هذه في صفحات مثيرة تكاد تشكّل رواية صغيرة رائعة داخل الكتاب. معروف أنّ جينيه قد عاش تجربة السّجن بسبب اختلاسات صغيرة، للكتب خاصّة، قام بها في شبابه. وقد بقي يحمل أذى الاعتقال وسوء المعاملة في وجدانه طيلة حياته. ولا شكّ أنّ فصول هذه المعاناة وطبيعة تمرّده على الهيمنة الغربية على العالَم تقف وراء تعاطفه الفعّال مع الفلسطينيّين، وقَبلَهم مع الفهود السّود، والتجربة اليونانيّة في النضال ضدّ الديكتاتوريّة، والانتفاضة الطلّابية في فرنسا في 1968. والحال أنّ الروائيّة والناقدة الفرنسيّة ماري رودونيه نشرت قبل سنوات كتاباً نقديّاً مهمّاً أعادت فيه قراءة كلّ تجربة جينيه ومساره الأدبيّ على ضوء تجربته الفلسطينيّة، وانتهت إلى استنتاج أنّ علاقة جينيه بالفلسطينيّين وكتابته لـ «أسير عاشق» هما اللّتان مكّنتاه من تحقيق الخروج الفعليّ والنّهائيّ من السّجن، والمقصود طبعاً هو تجربة السّجن المؤذية التي قلتُ إنّه بقي يحمل آثارها في داخله.
○ كيف تقرأ حضور حقائب جينيه كمكوّن أساسيّ من المعرض؟
• هذا المعرض المسمّى «حقائب جان جينيه» يشكّل في الواقع أحد أجنحة المعرض الشامل الذي استضافه معهد العالم العربيّ بباريس، والذي أمضى المؤرّخ والكاتب الفلسطينيّ إلياس صنبر سنوات عديدة في جمع محتوياته. يحمل المعرض الشّامل عنوان «ما تقدّمه فلسطين للعالَم» ويقدّم مجموعة ضخمة من الأعمال التشكيليّة لفنّانين فلسطينيّين من مختلف الأجيال والاتّجاهات الفنيّة. أمّا الجناح المسمّى «حقائب جان جينيه» فقد أشرف على إعداده الباحث الفرنسيّ من أصول لبنانيّة ألبير ديشي، المختصّ بأرشيف جان جينيه ومدير «الإيميك» («مؤسّسة ذاكرة النشر المعاصر» بفرنسا).
ينبغي في الواقع الكلام عن «حقيبتَي جان جينيه» (والفرنسية لا تحمل، كما تعلمين، صيغة المثنّى كما في العربيّة). ذلك أنّ جان جينيه، قبل أن يرحل في 14 نيسان/أبريل 1986 بخمسة عشر يوماً، أودع عند محاميه رولان دوما، وزير الخارجية في عهد فرانسوا ميتران، حقيبتين ممتلئتين بالمخطوطات. للوهلة الأولى، يبدو أنّها مجموعة من الرسائل والملاحظات المتفرّقة في أمور شتّى، كالسّجن والكتابة والسينما، ولكنها تنطوي في الحقيقة على آثار ملموسة لرفقة استمرّت ستّة عشر عاماً مع الفهود السّود والفلسطينيّين. من هذه الآثار الصّيَغ الأولى لصفحات عديدة متفرّقة من «أسير عاشق». تضمّ الحقيبتان أيضاً صوراً فوتوغرافيّة لجينيه مع الفهود السّود وياسر عرفات والفدائيّين الفلسطينيّين ومع الشّاعر الفلسطينيّ خالد أبو خالد وشخصيّات أخرى، ووثائق شخصيّة ومخطوطات العديد من المقابلات التي أُجريَت معه ومن نصوصه عن السّجون والحركات الاحتجاجيّة وسواها.
يعرض هذا الجناح أيضاً للمرّة الأولى المخطوطة الأصليّة لنصوص جان جينيه الوجيزة التي رافقت التحقيقات المصّورة التي أنجزها المصوّر الصحافيّ برونو باربي من وكالة ماغنوم في مخيّمات اللّاجئين وقواعد الفدائيّين الفلسطينيّين في الأردنّ في الفترة نفسها التي أقام فيها جينيه بين الفلسطينيّين في هذه المخيّمات والقواعد (1970-1972). كما يعرض آثاراً من علاقة جان جينيه مع «مجلّة الدراسات الفلسطينية» (التي صدرت بالفرنسية طيلة عقود عديدة) وعن الصداقة الطويلة الجميلة التي جمعته بالمناضلة الفلسطينية ليلى شهيد، والتي تمخّضت عن نصّه الشّهير «أربع ساعات في شاتيلا». نُشِر النصّ في «مجلّة الدراسات الفلسطينية» في كانون الثاني/يناير 1983 كما صدر بترجمة عربية مشرقة قام بها الكاتب المغربيّ محمّد برادة. وهو يمثّل شهادة عميقة ومؤثّرة عمّا شاهده الكاتب من آثار الجريمة المروّعة المرتكبة بحقّ اللاجئين الفلسطينيّين في مخيّمات صبرا وشاتيلا، التي دخلها الكاتب وليلى شهيد في اليوم التالي للمجزرة، إذ كانا في بيروت في تلك الأثناء. كان عليه، كما كتب، أن يسير متقافزاً بين عشرات الجثث ليشقّ لنفسه طريقاً. بهذا النصّ، الذي حفّزه على إمضاء سنوات في تأليف «أسير عاشق» استأنف جينيه الكتابة الأدبيّة بعد سنوات من الصّمت.
○ من سيفكّ شيفرات تلك القصاصات التي تركها جينيه ويعيد ترتيبها لتصبح بمتناول الجميع؟
• مثلما أسلفتُ، هذه الوثائق والمخطوطات تساعد في الكشف عن «منهجيّة» جينيه في الكتابة، وعن طريقته في تدوين معايناته وذكرياته وآرائه في نصوص متفرّقة يمنحها فيما بعد وحدة رائعة وتماسكاً وانسجاماً مدهشَين. لا يقدر مُشاهد المعرض تقدير ذلك بدقّة، لأنّه يجب مقارنة هذه الوثائق بالنصوص النهائية المطبوعة. ولكنّ باحثين معنيّين بدراسة المسار التكوينيّ للنّصوص الأدبيّة يقومون بذلك، بالرّجوع إلى أرشيف الكاتب، المحفوظ في «مؤسّسة ذاكرة النشّر المعاصر» والذي أتت منه محتويات هذا الجناح في المعرض الذي نحن بصدد الكلام عنه. وقد صدرت بالفعل دراسات عديدة تتبع هذا المنحى. وما برحت مؤلّفات جينيه، وبالذّات كتابه «أسير عاشق» تشكّل مادّة دراسة واستكشاف للعديد من الباحثين والنقّاد من مختلف الثقافات واللّغات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية