قد يبدو الاطلاع على التاريخ أمراً باعثاً على المتعة لمن يرغب في معرفة مجريات الماضي وحقائقه، وقد يكون جزءاً من ممارسة تتبنى نقده، ومحاولة فهمه، أو ما يتعلق به من أثر على المستقبل، وفي بعض الأحيان الادعاء بأن فيه عبرة، وغير ذلك من تلك الإسقاطات التي تتعلق بالتاريخ، وموضعه في الثقافة الإنسانية المسكونة بمعرفة الماضي، والرغبة بتداول الحكايات، ومع ذلك فإنّ الجدل بمعنى التاريخ، والأثر الوظيفي له يبقى قائماً، من حيث التساؤل إلى أي مدى يمكن أن نثق بالتاريخ أو فعل التأريخ؟ ومع ذلك، فثمة -غالباً – ظلال من الشك تحيط بفعل التأريخ، لا التاريخ عينه، إذ يشير ريموند وليمز في تتبعه لهذه الكلمة في كتاب «الكلمات المفاتيح» بأنها تشكلت في البدء من الرغبة بالبحث والتحري. وبذلك فإن ثمة فرقاً بين المفهومين، فالأول قائم (التاريخ) غير أنّه لا يمكن التيقن منه نتيجة فعل التأريخ عينه، بما في ذلك تاريخنا المعاصر الذي نخطه الآن، فهل يمكن الوثوق فيه؟ ولا سيّما أنه يُكتب من وجهة من يملك القوة، أو السلطة، وكما يقول ألكسيس دي توكفيل، فإن التاريخ عبارة عن صور أصلية، لكن ثمة نسخاً كثيرة، وبذلك يكون التاريخ مخالفاً للواقع، وهنا أعني السردية الرسمية، أو بعبارة أخرى «الشرعية الخطابية» تبعاً للمنشئ الذي يتحول إلى ناطق يدعي صفة الأصالة، والوصي على تكريس نسخة أخرى في وعي الأجيال، عبر ممارسات عمليات الانتقاء والصياغة، كما الحذف والتثبيت، والأهم التحيّز.
يرى الروائي الأمريكي جيمس بلدوين أن التاريخ لا يعني شيئاً يُقرأ، أو أنه يشير إلى الماضي، بل تكمن قوته العظيمة بأننا نحمله في داخلنا، ويسيطر على مصائرنا بشكل غير واعٍ، ويكاد يحضر في كل ما نقوم به، ومع ذلك فلا يمكن إلا أن نرى الأمر من منظور معقد وجدلي، فثمة من يقول إن التاريخ المعاصر يحتمل أكثر من وجهة نظر، فثمة من يكتبون تاريخاً موازياً، وثمة أيضاً في النصوص الأدبية ونظريتها، سعي لتقديم وجهة نظر أخرى تندرج ضمن مقولة التاريخانية الجديدة، في حين يمكن أن نضيف أن فاعلية الصورة – في زمننا هذا- بما في ذلك الفيديو، والصورة، والإنترنت قد أسهمت مجتمعة في تبديد مركزية التاريخ، كما تبني وجهات نظر أخرى أطلقتها مقولات ما بعد الحداثة التي حاولت أن تشكك في السرديات المركزية. وعلى الرغم من ذلك، فإن السواد الأعظم من البشر يتعرضون إلى نوع من الإذعان للمقولة التي تتبناها جهة ما؛ بمعنى سردية السلطة، لا سلطة السردية عينها، فمعظم البشر ليسوا معنيين بالبحث عن الحقيقية، ولاسيّما في زمن تشكل النشأة الأولى، ونعني مرحلة التعليم، حيث لا يتملك البعض الأدوات اللازمة للموازنة والبحث، علاوة على المقارنة بين وجهات النظر الأخرى، وبالتالي فإنه يمكن أن ينشأ ضمن سردية مضللة، وهو معتقد بمروية واحدة أو وجهة نظر تتبناها فئة أو مجموعة بعينها، وهذا ما يمكن أن ينسحب على عامة الناس، وبناء عليه، فإن هذا يعني تراكماً معرفياً وأيديولوجياً يتوجه إلى تحقيق مصلحة مجموعة أو فئة معينة.
قد يبدو الأمر بالنظر إلى تراكمات التاريخ السابق أو القديم الذي يعود إلى قرون خلت، أكثر تعقيداً حين نعلم أننا في مواجهة البحث عن حقيقة تاريخية، أو إدراك حقيقة ما حدث في زمن حول واقعة معينة، بداعي معوّقات كثيرة، وبذلك فإننا مضطرون لإعادة برمجة وعينا كي نلج مرويات كثيرة، أو متعارضة، وفي معظم الأحيان نضطر لأن نقوم بالتبديل والتعديل إزاء تلك المرويات، لكن المفاجأة حين تكتشف أن التاريخ، على الرغم من أنه ممارسة منهجية، ويتأسس على فلسفة قد تبدو لنا صلدة أو ذات مرجعية معرفية عميقة، غير أنه ثمة ممارسة أخلاقية تتعلق بمعنى الحقيقة، ومع ذلك فثمة هشاشة – واضحة – في ما يُكتب أو أنه ينطوي على كثير من التأويل وقيم التعديل، وشيء من التلفيق، علاوة على تبني وجهة نظر تبعاً لوقائع السلطة أو لتحيز أيديولوجي، وهنا لا أعني بتلك المرويات التي تبدو واضحة للعيان أو مكشوفة – التي تصدر من لدن جماعات مفضوحة أيديولوجيا- إنما أعني تلك الكتابات التي تتصل بمرجعية أكاديمية، ينبغي أن تكون أكثر حياداً في كتابة التاريخ.
ولعل لا شيء يبدو أكثر هشاشة من هذا النهج الذي يمارس انتقائية تجاه الحدث، علاوة على محاولة لي عنق التاريخ أو الحقيقة المضمرة، كي يبقي على ما يعتقده لأهداف وظيفية، ولطالما كانت القضايا التي تتعلق بحساسة الدين والسلطة الجزء الأكبر من هذا النهج، وفي التراث العربي أو الإسلامي جزء كبير من هذا التباين في السرديات التاريخية، ولاسيما تجاه بعض القضايا الحساسة.
تبرز تداعيات هذا الفعل عبر آثاره على الحاضر، ولاسيما تعطّل محاولة تحقيق النهضة، أو حتى الازدهار الذي يحتاج إلى فعل نقدي تجاه التشوّهات التي طالت التاريخ، فالوعي بالحقيقة يعني القدرة على كشف الادعاءات، التي لطالما ُأُعيد إنتاجها من أجل تكريس الأفكار أو هيمنة أفكار المجموعات التي تتبنى أفكاراً معينة في محاولة تفسير التاريخ.
إن صحوة الضمير التي تصيب بعض الشخصيات الاعتبارية، من أجل سرد مرويتهم من مبدأ أنها – ربما- قد تقدم صورة أخرى عن سردية السلطة، أو القيم السائدة تبقى جزءاً من المنافذ التي تتيح تحقيق شيء من التوازن بعد صحوة شيء من الضمير، لكنها مع ذلك تبقى مصدراً لا يقينياً، كونها تنتمي إلى خطاب هامشي لا يندرج تحت خانة الخطابات المؤسسة للوعي التاريخي لأمة بعينها، ولاسيّما إذا كانت تمارس فعل بحث خطابي يهدف إلى تشييد معنى الأمة، وهو ما نراه، على سبيل المثال، في الكيان الصهيوني، وغير ذلك من الكيانات التي لا تنطوي على سردية تاريخية واضحة أو تحوز المعيارية اللازمة.
إن قراءة التاريخ بوعي المساءلة والتحقق، يندرج تحت ابتناء الوعي، فثمة في المفاصل العميقة لخطيّة التاريخ التواءات، وهي غالباً تنتج عن ضلالة خلق وعي زائف، فعمليات الحجب والتشكيك بمرويات الآخر تبقى جزءاً من فعل خطابي وممنهج، وفي ظني، أن محاولة الحجر على الوعي عبر مراكمة خطابات، بالتوازي مع حجب أخرى، تتصل بسياسة الوعي العربي المسكون بالوصاية، ولاسيما من لدن المؤسسة بغض النظر عن تمظهرها، فالغاية للحقيقة تتطلب الإتاحة في سياق الدعوة للنقد؛ بمعنى أن نرى التاريخ من منظور نقدي متاح للجميع، والاختبار، وألا نسعى إلى طمس الحقائق، وممارسة الوصاية؛ لأن صدمة المعرفة الناتجة للذات الساعية إلى الحقيقة قد تكون أقرب إلى نقض النموذج المثالي للوعي بالذات عينها، من ناحية الهوية، غير أنّ الخطورة الكامنة تتصل بالحد من الاستفادة من التاريخ، من أجل تجاوز الأنماط المتكررة في التاريخ، وهي غالباً ما تكون مسؤولة عن الاعوجاج الحضاري القائم الآن نتيجة هذا.
كاتب أردني فلسطيني